فصل: فصل: في صفة السلام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد **


فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في الأذان وأذكاره

ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنه سنَّ التأذين بترجيع وبغير ترجيع، وشرع الإقَامَةَ مثنى وفُرادى، ولكن الذي صح عنه تثنيةُ كلمةِ الإقَامَةِ‏:‏ ‏(‏قَدْ قَامَتِ الصَّلاةُ‏)‏ ولم يصح عنهُ إفرادُهَا البتة، وكذلك صحَّ عنه تكرارُ لفظ التكبير في أول الأذان أربعاً، ولم يَصِحَّ عنه الاقتصارُ على مرتين، وأما حديثُ‏:‏ ‏(‏أُمِرَ بِلاَلٌ أنْ يَشْفَعَ الأذَانَ وَيُوتِرَ الإقَامَةَ‏)‏ فلا ينافى الشفع بأربع، وقد صحّ التربيعُ صريحاً في حديث عبد اللَّه بن زيد، وعمر بن الخطاب، وأبى محذورة رضى اللَّه عنهم‏.‏

وأما إفرادُ الإقامة، فقد صحَّ عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما، استثناءُ كلمة الإقامة، فقال‏:‏ إنما كانَ الأذانُ على عَهْدِ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، والإقَامةُ مرَّةً مرَّةً، غيرَ أنه يقول‏:‏ قَد قَامَتِ الصَّلاَةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏صحيح البخارى‏)‏ عن أنس‏:‏ ‏(‏أُمِرَ بِلالٌ أنْ يَشْفَعَ الأذَانَ، ويُوتِرَ الإقَامَةَ، إلا الإقَامَة‏)‏‏.‏

وصح من حديث عبد اللَّه بن زيد وعمر في الإقامة‏:‏ ‏(‏قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلاَةُ‏)‏‏.‏

وصح من حديث أبى محذورة تثنيةُ كلمةِ الإقامة مع سائر كلماتِ الأذان‏.‏

وكُلُّ هذه الوجوه جائزة مجزئة لا كراهة في شئ منها، وإن كان بعضُها أفضلَ مِن بعض، فالإمام أحمد أخذ بأذان بلال وإقامته، والشافعى، أخذ بأذان أبى محذورة وإقامة بلال، وأبو حنيفة أخذ بأذان بلال وإقامة أبى محذورة، ومالك أخذ بما رأى عليه عملَ أهل المدينة من الاقتصار على التكبير في الأذان مرتين، وعلى كلمة الإقامة مرة واحدة، رحمهم اللَّه كلهم، فإنهم اجتهدوا في متابعة السُّـنَّة‏.‏

فصل‏:‏ فيما شرعه صلى الله عليه وسلم لأُمَّته من الذِّكْرِ عند الأذان وبعده

وأمّا هَدْيُه صلى اللَّه عليه وسلم في الذِّكر عند الأذان وبعدَه، فشرع لأُمَّته منه خمسة أنواع‏:‏

أحدها‏:‏ أن يقول السامع كما يقول المؤذِّن، إلا في لفظ‏:‏ ‏(‏حىّ على الصلاة‏)‏، ‏(‏حىّ على الفلاح‏)‏ فإنه صح عنه إبدالُهما بـ ‏(‏لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ‏)‏ ولم يجئ عنه الجمعُ بينها وبين‏:‏ ‏(‏حىّ على الصلاة‏)‏، ‏(‏حىّ على الفلاح‏)‏ ولا الاقتصارُ على الحيعلة، وهَدْيُه صلى اللَّه عليه وسلم الذي صح عنه إبدالُهما بالحوقلة، وهذا مقتضى الحكمة المطابقةِ لحال المؤذِّن والسامع، فإن كلمات الأذان ذِكْرٌ، فَسَنَّ للسامع أن يقولها، وكلمة الحيعلة دعاءٌ إلى الصلاة لمن سمعه، فَسَنَّ للسامع أن يَسْتَعِينَ على هذه الدعوة بكلمة الإعانة وهى‏:‏ ‏(‏لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ باللَّهِ العَلِّى العظيم‏)‏‏.‏

الثانى‏:‏ أن يقول‏:‏ وأَنَا أَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، رَضِيتُ بِاللَّه رَباً، وَبالإسْلاَمِ دِينَاً، وبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَأَخْبَرَ أنَّ مَنْ قَالَ ذلِكَ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ‏.‏

الثالث‏:‏ أن يُصلِّىَ على النبىِّ صلى الله عليه وسلم بعدَ فَراغه من إجابة المؤذِّن، وأكْمَلُ ما يُصلَّى عليه بِهِ، ويصل إليه، هي الصلاة الإبراهيمية كما علَّمه أُمَّته أن يُصلُّوا عليه، فلا صلاَةَ عليه أكملُ منها وإن تحذلق المتحذلقون‏.‏

الرابع‏:‏ أن يقولَ بعد صلاته عليه‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ رَبَّ هذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، والصَّلاةِ القَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّداً الوَسِيلَةَ والفَضِيلَةَ، وابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً الذي وعَدْتَهُ إنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَادَ‏)‏ هكذا جاء بهذا اللفظ‏:‏ ‏(‏مقاماً محموداً‏)‏ بلا ألف ولا لام، وهكذا صح عنه صلى اللَّه عليه وسلم‏.‏

الخامس‏:‏ أن يدعوَ لنفسه بعد ذلك، ويسألَ اللَّه من فضله، فإنه يُسْتَجَاب له، كما في ‏(‏السنن‏)‏ عنه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قُلْ كَمَا يَقُولُونَ - يَعْنِى المُؤَذِّنِينَ - فَإذَا انْتَهيْتَ فَسَلْ تُعْطَهْ‏)‏‏.‏

وذكر الإمام أحمد عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ قَالَ حينَ يُنَادِى المُنَادِى‏:‏ اللَّهُمَّ رَبَّ هذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّة وَالصَّلاةِ النَّافِعَةِ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَارْضَ عَنْهُ رِضَىً لا سَخَطَ بَعْدَهُ، اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ دَعْوَتَه‏)‏‏.‏

وقَالت أمُّ سلمة رضى اللَّه عنها‏:‏ علَّمنى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أقول عند أذان المغرب‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إنَّ هذَا إقْبَالُ لَيْلِكَ، وَإدْبَارُ نَهَارِكَ، وَأَصْوَاتُ دُعَاتِكَ، فَاغْفِرْلى‏)‏ ذكره الترمذى‏.‏

وذكر الحاكم في ‏(‏المستدرك‏)‏ من حديث أبى أُمامة يرفعه أنه كان إذا سمع الأذان قال‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ رَبِّ هَذِهِ الدَّعْوةِ التَّامَّةِ المُسْتَجَابَةِ، والمُسْتَجَابِ لَهَا، دَعْوةِ الحَقِّ وَكَلِمَةِ التَّقْوَى، تَوَفَّنى عَلَيْهَا وَأَحْيِنِى عَلَيْهَا، وَاجْعَلْنِى مِنْ صَالِحِى أهْلِهَا عَمَلاً يَوْمَ القِيَامَةِ‏)‏، وذكره البيهقى من حديث ابن عمر موقوفاً عليه‏.‏

وذُكر عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه كان يقول عند كلمةِ الإقامة‏:‏ ‏(‏أقَامَهَا اللَّهُ وأدَامَهَا‏)‏‏.‏

وفى السنن عنه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الدُّعَاءُ لاَ يُرَدُّ بينَ الأذَانِ والإقامَةِ‏)‏ قالوا فما نقولُ يا رسول اللَّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏سَلُوا اللَّه العَافِيةَ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ‏)‏ حديث صحيح‏.‏

وفيها عنه‏:‏ ‏(‏سَاعَتَانِ، يَفْتَحُ اللَّهُ فِيهمَا أبْوابَ السَّمَاءِ وقَلَّما تُرَدُّ عَلَى دَاعٍ دَعْوتُه‏:‏ عِنْدَ حُضُورِ النِّدَاءِ، والصَّفِّ في سَبِيلِ اللَّه‏)‏‏.‏

وقد تقدَّم هَدْيُه في أذكار الصلاة مفصَّلاً والأذكارِ بعد انقضائها، والأذكار في العيدين، والجنائز، والكسوف، وأنه أمر في الكسوف بالفزع إلى ذكر اللَّه تعالى، وأنه كان يسبِّح في صلاتها قائماً رافعاً يديه يُهلِّل ويُكبِّر ويَحْمَدُ ويدعو حتى حُسِر عن الشمس، واللَّه أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في الإكثار من الدعاء والتهليل والتكبير والتحميد في عشر ذى الحِجَّة

وكان صلى اللَّه عليه وسلم يُكثِرُ الدعاء في عَشْرِ ذى الحِجَّة، ويأمُر فيه بالإكثار من التهليل والتكبير والتحميد‏.‏

ويُذكر عنه أنه كان يُكبِّر من صلاة الفجر يومَ عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، فيقول‏:‏ ‏(‏اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُ أكْبَرُ، لاَ إلهَ إلاَّ اللَّهُ، واللَّه أكْبَرُ ولِلَّهِ الحَمْدُ‏)‏ وهذا وإن كان لا يصح إسناده، فالعمل عليه، ولفظه هكذا يشفع التكبير، وأما كونه ثلاثاً، فإنما رُوى عن جابر وابن عباس مِن فعلهما ثلاثاً فقط، وكِلاهما حسن، قال الشافعى‏:‏ إن زاد فقال‏:‏ ‏(‏اللَّه أكبرُ كبيراً، والحمدُ للَّه كثيراًَ، وسُبْحانَ اللَّهِ بُكرةً وأصيلاً، لا إلهَ إلا اللَّهُ، ولا نعبدُ إلا إيَّاه، مخلصين له الدِّينَ ولو كره الكافرون، لا إله إلا اللَّهُ وحدَهُ، صدَقَ وعده، ونصرَ عبدَه، وهزم الأحزابَ وحده، لا إله إلا اللَّه واللَّهُ أكبرُ‏)‏ كان حسناً‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في الذِّكْرِ عند رؤية الهلال

يُذكر عنه أنه كان يقول‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ أَهِلَّه عَلَيْنَا بِالأمْنِ والإيمَانِ، والسَّلاَمَةِ والإسْلامِ، رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ‏)‏ قال الترمذى‏:‏ حديثٌ حسن‏.‏

ويُذكر عنه أنه كان يقول عند رؤيته‏:‏ ‏(‏اللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُمَّ أهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأَمْنِ والإيمَانِ، والسَّلامَةِ والإسْلاَمِ والتَّوْفِيقِ لِمَا يُحبُّ ربُّنا ويَرْضَى، رَبُّنَا وَرَبُّكَ اللَّهُ‏)‏ ذكره الدارمى‏.‏

وذكر أبو داود عن قتادة أنه بلغه أن نبىَّ اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال‏:‏ ‏(‏هِلاَلُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، هِلاَلُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ، آمَنْتُ بِالَّذِى خَلَقَكَ‏)‏ - ثَلاثَ مَرَّاتٍ- ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ الحَمْدُ لِلَّهِ الذي ذَهَبَ بشهرِ كَذَا، وَجَاءَ بشَهْرِ كَذَا‏)‏‏.‏ وفى أسانيدها لين‏.‏

ويُذكر عن أبى داود وهو في بعض نسخ سننه أنه قال‏:‏ ليس في هذا البابِ عن النبى صلى الله عليه وسلم حديثٌ مسند صحيح‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في أذكار الطعام قبله وبعده

كان إذا وضع يده في الطعام قال‏:‏ ‏(‏بسْمِ اللَّهِ‏)‏ ويأمر الآكل بالتسمية، ويقول ‏(‏إذَا أكَلَ أحَدُكُم، فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تعَالَى، فإنْ نَسِىَ أنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ في أوَّلِهِ، فَلْيَقُلْ‏:‏ بِسْمِ اللَّهِ في أوَّلِه وَآخِرِهِ ‏)‏ حديث صحيح‏.‏

والصحيحُ وجوبُ التسمية عند الأكل، وهو أحدُ الوجهين لأصحاب أحمد، وأحاديث الأمر بها صحيحة صريحة، ولا مُعارِضَ لها، ولا إجماعَ يسوِّغُ مخالفتها ويُخْرِجُهَا عن ظاهرها، وتارِكُهَا شريكهُ الشيطان في طعامه وشرابه‏.‏

فصل‏:‏ في إذا ما كان الآكلون جماعة فعلى كل واحد منهم أن يُسمِّىَ الله

وهاهنا مسألة تدعو الحاجة إليها، وهى أن الآكلين إذا كانوا جماعة، فسمَّى أحدُهم، هل تزولُ مشاركة الشيطان لهم في طعامهم بتسميته وحدَه، أم لا تزول إلا بتسمية الجميع‏؟‏ فنصَّ الشافعى على إجزاء تسمية الواحد عن الباقين، وجعله أصحابُه كردِّ السلام، وتشميتِ العاطس، وقد يُقال‏:‏ لا تُرفع مشاركةُ الشيطان للآكل إلا بتسميته هو، ولا يكفيه تسميةُ غيره، ولهذا جاء في حديث حذيفة‏:‏ إنَّا حضرنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طعاماً، فجاءت جارية كأنما تُدْفَع، فذهبتْ لتضع يدها في الطعام، فأخذَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بيدها، ثمَّ جاء أعرابى كَأَنَّمَا يُدْفَعُ، فأخذ بيده، فقالَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ أنْ لا يُذْكَرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وإنَّهُ جَاءَ بِهذِهِ الجَارِيَةِ لِيَسْتَحِلَّ بِهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا، فَجَاءَ بِهذَا الأعْرَابىِّ لِيَسْتَحِلَّ بِهِ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، والذي نَفْسِى بِيَدِهِ إنَّ يَدَهُ لَفِى يَدى مَعَ يَدَيْهِمَا‏)‏ ثم ذكرَ اسمَ اللَّه وأكل، ولو كانت تسمية الواحد تكفى، لما وضع الشيطان يده في ذلك الطعام‏.‏

ولكن قد يُجاب بأن النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن قد وضع يده وسمَّى بعدُ، ولكنَّ الجارية ابتدأت بالوضع بغيرِ تسمية، وكذلك الأعرابىُّ، فشاركهما الشيطانُ، فمِن أين لكُم أن الشيطان شارك مَن لم يُسمِّ بعد تسمية غيره‏؟‏، فهذا مما يُمكن أن يُقالَ، لكن قد روى الترمذىُّ وصححه من حديث عائشة قالت‏:‏ كان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يأكلُ طعاماً في سِتَّةِ من أصحابه، فجاء أعرابى، فَأَكَلَهُ بِلُقْمَتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمَا إنَّه لَوْ سَمَّى لَكَفَاكُم‏)‏، ومِن المعلوم أن رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأولئك الستة سَمَّوا، فلما جاء هذا الأعرابى فأكل ولم يسمِّ، شاركه الشيطانُ في أكله فأكل الطعام بِلُقمتين، ولو سمَّى لكفى الجميع‏.‏

وأمّا مسألةُ ردِّ السلام، وتشميتِ العاطس، ففيها نظر، وقد صحَّ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذَا عَطَسَ أحَدُكُم، فَحَمِدَ اللَّه فَحَقٌ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَهُ أنْ يُشَمِّتَهُ‏)‏ وإن سُلِّمَ الحُكم فيهما، فالفرقُ بينهما وبين مسألة الأكل ظاهِرٌ، فإن الشيطانَ إنما يتوصل إلى مشاركة الآكِل في أكله إذا لم يُسمِّ، فإذا سمَّى غيرُه، لم تجُز تسميةُ مَن سمَّى عمن لم يُسمِّ مِن مقارنة الشيطانِ له، فيأكل معه، بل تَقِلُّ مشاركة الشيطان بتسمية بعضهم، وتبقى الشركةُ بين مَن لم يُسمِّ وبينه، واللَّه أعلم‏.‏

ويُذكر عن جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ نَسِىَ أنْ يُسَمِّىَ عَلَى طَعَامِهِ، فَلْيَقْرَأ‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ إذَا فَرَغَ‏)‏ وفى ثبوت هذا الحديث نظر‏.‏

وكان إذا رُفِعَ الطعامُ من بين يديه يقول‏:‏ ‏(‏الحَمْدُ لِلَّهِ حَمْداً كَثِيراً طيِّباً مُبَارَكاً فِيهِ، غيرَ مَكْفِىٍّ وَلاَ مُوَدَّعٍ وَلاَ مُسْتَغْنىً عَنْه رَبُّنا‏)‏ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏ ذكره البخارى‏.‏

وربمَا كانَ يقول‏:‏ ‏(‏الحَمْدُ للَّهِ الذي أطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ‏)‏‏.‏

وكان يقول‏:‏ ‏(‏الحَمْدُ للَّهِ الذي أطْعَمَ وَسَقَى وسوَّغَهُ وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجاً‏)‏‏.‏

وذكر البخارىُّ عنه أنه كان يقولُ‏:‏ ‏(‏الحَمْدُ للَّهِ الذي كَفَانَا وَآوَانا‏)‏، وذكر الترمذى عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏مَنْ أكَلَ طَعامَاً فَقَالَ‏:‏ الحَمْدُ للّهِ الذي أَطْعَمَنِى هَذَا مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّى وَلا قُوَّةٍ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ‏)‏ حديث حسن‏.‏

ويُذكر عنه أنه كان إذَا قُرِّبَ إليه الطعامُ قال‏:‏ ‏(‏بِسْمِ اللَّهِ‏)‏ فإذَا فَرَغَ مِن طعامه قال‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ أطٌعَمْتَ وَسَقَيْتَ، وأَغْنَيْتَ وَأَقْنَيْتَ، وهَدَيْتَ وأَحْيَيْتَ، فَلَكَ الحَمْدُ عَلى مَا أَعْطَيْتَ‏)‏ وَإسْناده صحيح‏.‏

وفى السنن عنه أنه كان يقولُ إذا فرغ‏:‏ ‏(‏الحَمْدُ لِلَّهِ الذي مَنَّ عَلَيْنَا وَهَدَانَا، والذي أَشْبَعَنَا وَأَرْوَانَا، ومِنْ كُلِّ الإحْسَانِ آتَانَا‏)‏ حديث حسن‏.‏

وفى السنن عنه أيضاً‏:‏ ‏(‏إذَا أكَلَ أَحَدُكُم طَعَاماً فَلْيَقُلْ‏:‏ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَأَطْعِمْنَا خَيْراً مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهَ اللَّهُ لَبَنَا، فَلْيَقُلْ‏:‏ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ، فإنه ليس شئ ويُجزِئ عن الطعام والشراب غير اللبن‏)‏ حديث حسن‏.‏

ويُذكر عنه أنه كَانَ إذَا شَرِبَ في الإنَاءِ تَنَفَّسَ ثَلاثَة أنْفَاسٍ، ويَحْمَدُ اللَّهَ في كُلِّ نَفَسٍ، وَيَشْكُرُهُ في آخِرِهِنَّ‏.‏

فصل

وكان صلى اللَّه عليه وسلم إذا دخل على أهلِهِ رُبَّمَا يسأْلُهم‏:‏ ‏(‏هَلْ عِنْدَكُم طَعَامٌ‏)‏‏؟‏ وَمَا عَابَ طَعَاماً قطٌّ، بَلْ كَانَ إذَا اشتهاهُ أكَلَهُ، وإنْ كَرِهَهُ تَرَكهُ وَسَكَت، وربما قال‏:‏ ‏(‏أجِدُنى أعَافُهُ إنِّى لا أَشْتَهِيهِ‏)‏‏.‏

وكان يمدح الطعامَ أحياناً، كقوله لما سأل أهلَهُ الإدامَ، فقالُوا‏:‏ ما عِندنا إلا خَلٌّ، فدعا به فجعل يأكُلُ مِنْهُ ويقُولُ‏:‏ ‏(‏نِعْمَ الأُدْمُ الخَلُّ‏)‏، وليس في هذا تفضيل له على اللبن واللَّحم والعَسَل والمَرَق، وإنما هو مدح له في تلك الحال التي حضر فيها، ولو حَضَرَ لحم أو لبن، كان أولى بالمدح منه، وقال هذَا جبراً وتطييباً لقلب مَن قدَّمه، لا تفضيلاً له على سائر أنواع الإدام‏.‏

وكان إذا قُرٍّبَ إليه طعام وهو صائم قال‏:‏ ‏(‏إنِّى صَائِمٌ‏)‏، وأمر مَن قُرِّبَ إليه الطعامُ وهو صائم أن يُصَلِّىَ، أى يدعو لمن قدَّمه، وإن كان مفطراً أن يأكل منه‏.‏

وكان إذا دُعىَ لِطعام وتبعه أحد، أعلمَ به ربَّ المنزل، وقال‏:‏ ‏(‏إنَّ هذَا تَبِعَنَا، فَإنْ شِئْتَ أنْ تأذَنَ لَهُ، وَإنْ شِئْتَ رَجَعَ‏)‏‏.‏

وكانَ يتحدَّث على طعامه، كما تقدَّم في حديث الخل، وكما قال لِربيبه عمر ابن أبى سلمة وهو يُؤاكِلهُ‏:‏ ‏(‏سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ ممَّا يَليك‏)‏‏.‏

وربما كان يُكرِّر على أضيافه عرضَ الأكل عليهم مِراراً، كما يفعلهُ أهلُ الكرم، كما في حديث أبى هريرة عند البخارى في قصة شُرب اللبن وقولِهِ له مِراراً‏:‏ ‏(‏اشْرَبْ‏)‏ فَمَا زَالَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏اشْرَبْ‏)‏ حَتَّى قَالَ‏:‏ والذي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لا أجدُ لَهُ مَسْلَكاً‏.‏

وكان إذا أكل عند قوم لم يخرُج حتى يَدْعُوَ لهم، فدعا في منزل عبد اللَّه ابن بُسر، فقالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُم فِيمَا رَزَقْتَهُم، وَاغْفِرْ لَهُمْ، وَارْحَمْهُمْ‏)‏ ذكره مسلم‏.‏

ودعا في منزل سعد بنِ عُبادة فقال‏:‏ ‏(‏أفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُم الأبْرَارُ، وصَلَّتْ عَلَيْكُمُ المَلائِكَةُ‏)‏‏.‏

وذكر أبو داود عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه لما دعاه أبو الهيثم بن التَّيهان هو وأصحابهُ فأكلوا، فلما فرغُوا قال‏:‏ ‏(‏أثِيبُوا أخَاكُمْ‏)‏ قَالُوا‏:‏ يا رَسُولَ اللَّهِ ؛ وما إثابتهُ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إنَّ الرَّجلَ إذَا دُخِلَ بَيْتُهُ، فأُكِلَ طَعَامُهُ، وشُرِبَ شَرَابُهُ، فَدَعَوْا لَهُ، فَذلِكَ إثَابَتُهُ‏)‏‏.‏

وصح عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه دخل منزله ليلَةً، فالتمس طعاماً فلم يجده، فقال‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِى، وَاسْقِ مَنْ سَقَانِى‏)‏‏.‏

وَذُكِرَ عنه أن عَمْرو بنَ الحَمِق سقاه لبناً فقال‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ أَمْتِعْهُ بِشَبَابِهِ‏)‏، فَمَرَّتْ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ سَنَةً لَمْ يَرَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ‏.‏

وكان يدعو لمن يُضيف المساكينَ، ويثنى عليهم، فقالَ مرَّة‏:‏ ‏(‏ألا رَجُلٌ يُضِيفُ هذَا رحِمَهُ اللَّهُ‏)‏، وقال للأنصارىِّ وامرأته اللَّذَيْنِ آثرا بقُوتِهما وقُوتِ صِبيانهما ضَيْفَهُمَا‏:‏ ‏(‏لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ‏)‏‏.‏

وكَانَ لا يأْنَفُ مِن مؤاكلة أحدٍ صغيراً كان أو كبيراً، حُراً أو عبداً، أعرابياً أو مهاجراً، حتى لقد روى أصحاب السنن عنه أنه أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القَصعة فقال‏:‏ ‏(‏كُلْ بِسْمِ اللَّهِ ثِقَةً بِاللَّهِ، وَتَوَكُّلاً عَلَيْهِ‏)‏‏.‏

وكان يأمُرُ بالأكل باليمين، وينهى عن الأكل بالشمال، ويقول‏:‏ ‏(‏إنَّ الشَّيْطَانَ يَأكُلُ بشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بشِمَالِهِ‏)‏، ومقتضى هذا تحريمُ الأكل بها، وهو الصحيح، فإن الآكلَ بِهَا، إما شيطان، وإما مشبَّه به، وصحَّ عنه أنه قال لرجل أكل عنده، فأكل بشماله‏:‏ ‏(‏كُلْ بِيَمينِكَ‏)‏، فقال‏:‏ لا أستطيعُ، فقال‏:‏ ‏(‏لاَ اسْتَطَعْتَ‏)‏ فما رفع يده إلى فيه بعدها، فلو كان ذلك جائزاً، لما دعا عليه بفعله، وإن كان كِبْرُهُ حمله على ترك امتثال الأمر، فذلك أبلغُ في العصيان واستحقاق الدعاء عليه‏.‏

وأمر مَن شَكَوْا إليه أنهم لا يشبعُونَ‏:‏ أن يجتمِعُوا على طعامهم ولا يتفرَّقُوا، وأن يذكُروا اسمَ اللَّهِ عليه يُبارك لهم فيه‏.‏

وصحَّ عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏إنَّ اللَّه لَيرضَى عَنِ العَبْدِ يَأْكُلُ الأَكْلَةَ يَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الشَّرْبَةَ يَحْمَدُهُ عَلَيْهَا‏)‏‏.‏

وروى عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏أَذِيبُوا طَعَامَكُم بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ والصَّلاَةِ، وَلا تَنَامُوا عَلَيْهِ فَتَقْسُوَ قلُوبُكُم‏)‏ وأحرى بهذا الحديث أن يكون صحيحاً والواقع في التجربة يشهدُ به‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيِه صلى الله عليه وسلم في السلام والاستئذانِ وتشميت العاطس

ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم في ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن أبى هُريرة أن ‏(‏أفْضَلَ الإسْلاَمِ وَخَيْرَهُ إطْعَامُ الطًَّعَامِ، وَأَنْ تَقْرَأَ السَّلاَمَ عَلى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ‏)‏‏.‏

وفيهما ‏(‏أن آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لـمَّا خلقَه اللَّهُ قَالَ لَهُ‏:‏ اذْهَبْ إلى أولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ المَلائِكَةِ، فَسَلِّم عَلَيْهِمْ، وَاسْتَمِعْ مَا يُحيُّونَكَ بِهِ، فَإنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ‏:‏ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّه، فَزَادُوهُ‏:‏ ‏(‏وَرَحْمةُ اللَّهِ‏)‏‏.‏

وفيهما أنه - صلى اللَّه عليه وسلم - ‏(‏أمَرَ بِإفْشَاءِ السَّلام وأخبرهم أنهم إذا أفشوا السلام بَيْنَهُمُ تَحَابُّوا، وَأنَّهُمُ لا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، وَلا يُؤمِنُونَ حَتَّى يَتَحَابُّوا‏)‏‏.‏

وقال البخارى في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ قال عمَّار‏:‏ ثلاثٌ مَنْ جمعَهُنَّ، فَقَدْ جَمَعَ الإيمَانَ‏:‏ الإنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلام لِلعَالَم، والإنْفَاقُ مِنَ الإقْتَارِ‏.‏

وقد تضمنت هذه الكلماتُ أصول الخير وفروعه، فإن الإنصاف يُوجب عليه أداء حقوق اللَّه كاملة موفَّرة، وأداء حقوق الناس كذلك، وأن لا يُطالبهم بما ليس له، ولا يُحمِّلهم فوق وُسعهم، ويُعامِلَهم بما يُحِبُّ أن يعامِلوه به، ويُعفيهم مما يُحبُّ أن يُعْفُوه منه، ويحكم لهم وعليهم بما يحكُمُ بِهِ لنفسه وعليها، ويدخلُ في هذا إنصافُه نفسه من نفسه، فلا يدَّعى لها ما ليسَ لها، ولا يُخبثها بتدنِيسه لها، وتصغيرهِ إياها، وتحقيرِها بمعاصى اللَّه، ويُنميها ويكبِّرُها ويرفعُها بطاعة اللَّه وتوحيده، وحبِّه وخوفِهِ، ورجائِهِ، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وإيثارَ مرضاتِهِ ومحابِّه على مراضى الخلق ومحابِّهم، ولا يكونُ بها مع الخلق ولا مع اللَّه، بل يعزِلُهَا من البين كما عزلها اللَّهُ، ويكون باللَّه لا بنفسه في حُبه وبُغضه، وعطائه ومنعه، وكلامِهِ وسكوتِهِ، ومدخلهِ ومخرجِهِ، فينجى نفسه مِن البين، ولا يرى لها مكانةً يعمل عليها، فيكون ممن ذمهم اللَّه بقوله‏:‏ ‏{‏اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 93، 121‏]‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 135‏]‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 39‏]‏ فالعبدُ المحض ليس له مكانة يعمل عليها، فإنه مستحقُ المنافع والأعمال لسيده، ونفسُه ملك لسيده، فهو عامل على أن يؤدىَ إلى سيده ما هو مستحق له عليه، ليس له مكانة أصلاً، بل قد كُوتب على حقوق مُنَجَّمَةٍ، كلما أدَّى نجماً حلَّ عليه نجمٌ آخر، ولا يزال المكاتَبُ عبداً ما بقى عليه شئ من نجوم الكتابة‏.‏

والمقصود أن إنصافه من نفسه يُوجب عليه معرفَة ربه، وحقَّه عليه، ومعرفةَ نفسه، ومَا خُلِقَتْ له، وأن لا يُزاحِم بها مالكَها، وفاطرَها ويدَّعى لها الملكة والاستحقاق، ويزاحم مرادَ سيده، ويدفعَه بمراده هو، أو يقدِّمه ويؤثِرَه عليه، أو يقسِم إرادته بين مراد سيده ومُراده، وهى قسمة ضِيزى، مِثل قسمة الذِينَ قالوا‏:‏ ‏{‏هَذَا لِلَّهِ بَزَعْمِهِمْ وَهذَا لِشُركَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلَى اللَّه وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 136‏]‏‏.‏

فلينظر العبد لا يكونُ مِن أهل هذه القسمة بين نفسه وشُركائه وبين اللَّه لجهله وظلمه وإلا لُبِّسَ عليه، وهو لا يشعرُ، فإن الإنسان خُلِقَ ظلوماً جهولاً، فكيف يُطلَبُ الإنصافُ ممن وصفُهُ الظلمُ والجهل‏؟‏، وكيف يُنصِفُ الخلَقَ مَن لم يُنْصِفِ الخَالِقَ‏؟‏، كما في أَثر إلهى يقول اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ‏:‏ ‏(‏ابْنَ آدَمَ مَا أنْصَفْتَنى، خَيْرِى إلَيْكَ نَازِلٌ، وشَرُّكَ إلىَّ صَاعِدٌ، كَمْ أَتَحَبَّبُ إلَيْكَ بِالنِّعَمِ، وَأَنَا غَنِىٌ عَنْكَ، وَكَمْ تَتَبَغَّضَ إلىَّ بِالمَعَاصِى وَأنْتَ فَقِيرٌ إلىَّ، ولا يَزَالُ المَلَكُ الكَرِيمُ يَعْرُجُ إلىَّ مِنْكَ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ‏)‏‏.‏

وفى أثَر آخر‏:‏ ‏(‏ابْن آدَمَ مَا أنْصَفْتَنِى، خَلَقتُكَ وَتَعْبُدُ غَيْرِى، وَأَرْزُقُكَ وَتَشْكُرُ سِوَاىَ‏)‏‏.‏

ثم كيف يُنصِفُ غيرَه مَن لم يُنْصِفْ نفسه، وظَلَمَهَا أقبحَ الظُّلْم، وسعَى في ضررها أعظمَ السعى، ومنعَهَا أعظم لذَّاتِهَا من حيث ظن أنه يُعطيها إيَّاهَا، فأتعبها كُلَّ التعب، وأشقاها كُلَّ الشقاء من حيث ظن أنه يُريحها ويُسعدها، وجدَّ كل الجدِّ في حِرمانها حظَّها من اللَّه، وهو يظن أنه ينيلها حظوظها، ودسَّاها كُلَّ التدسيةِ، وهو يظنُّ أنه يُكبرها ويُنميها، وحقَّرها كلَّ التحقير، وهو يظنُّ أنه يعظِّمها، فكيف يُرجى الإنصافُ ممن هذا إنصافُه لنفسه‏؟‏ إذا كان هذا فعلَ العبد بنفسه، فماذا تراه بالأجانب يفعل‏.‏

والمقصود أن قول عمار رضى اللَّه عنه‏:‏ ‏(‏ثلاث مَن جمعهن، فقد جمع الإيمان‏:‏ الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالَم، والإنفاق من الإقتار‏)‏، كلام جامع لأصول الخير وفروعه‏.‏

وبذل السلام للعالَم يتضمن تواضعَه وأنَّه لا يتكبَّر على أحد، بل يبذُلُ السلام للصغير والكبير، والشريفِ والوضيعِ، ومَن يعرِفه ومَن لا يعرفه، والمتكبِّر ضِدُّ هذا، فإنه لا يَرُدُّ السلام على كُلِّ مَن سلَّم عليهِ كبراً منه وتِيهاً، فكيف يبذُلُ السلامَ لِكل أحد‏.‏

وأما الإنفاق من الإقتار، فلا يصدرُ إلا عن قوةِ ثِقة باللَّه، وأنَّ اللَّه يُخلِفُه ما أنفقه، وعن قوة يقين، وتوكُّل، ورحمة، وزُهد في الدنيا، وسخاءِ نفس بها، ووثوق بوعد مَنْ وعده مغفرةً منه وفضلاً، وتكذيباً بوعد مَن يعدُه الفقر، ويأمر بالفحشاء، واللَّه المستعان‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في السلام على الصِبية والنساء

وثبت عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه مرَّ بِصبيان، فسلَّم عليهم، ذكره مسلم‏.‏ وذكر الترمذى في ‏(‏جامعه‏)‏ عنه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مرَّ يَوْماً بجماعةِ نسوة، فألوى بيده بالتسليم‏)‏‏.‏

وقال أبو داود‏:‏ عن أسماء بنت يزيد‏:‏ ‏(‏مرَّ علينا النبى صلى الله عليه وسلم في نسوة، فسلَّم علينا‏)‏، وهى رواية حديثِ الترمذى، والظاهر أن القصة واحدة وأنه سلَّم عليهن بيده‏.‏

وفى ‏(‏صحيح البخارى‏)‏‏:‏ أن الصحابه كانوا ينصرِفُونَ مِن الجمعة فيَمُرُّونَ عَلَى عجوز في طريقهم، فَيُسلِّمونَ عليها، فتُقدِّم لهم طعاماً من أُصول السلق والشًَّعِيرِ‏.‏

وهذا هو الصوابُ في مسألة السلام على النساء‏:‏ يُسلِّم على العجوز وذواتِ المحارم دونَ غيرهن‏.‏

فصل‏:‏ في تسليم الصغير على الكبير والماشى على القاعد

وثبت عنه في ‏(‏صحيح البخارى‏)‏ وغيره تسليمُ الصغير على الكبير، والمارِّ على القاعد، والراكب على الماشى، والقليلِ على الكثير‏.‏

وفى ‏(‏جامع الترمذى‏)‏ عنه‏:‏ يُسلِّم الماشى على القائم‏.‏

وفى ‏(‏مسند البزار‏)‏ عنه‏:‏ يسلِّم الراكبُ على الماشى، والماشى على القاعِد، والماشيان أيهما بدأ، فهو أفضل‏.‏

وفى ‏(‏سنن أبى داود‏)‏ عنه‏:‏ ‏(‏إنَّ أوْلَى النَّاسِ باللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بالسَّلامِ‏)‏‏.‏

وكان في هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم السلامُ عند المجئ إلى القوم، والسلامُ عند الانصراف عنهم، وثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏إذَا قَعَدَ أحَدُكُمْ، فَلْيُسَلِّمْ، وَإذَا قَامَ، فَلْيُسَلِّمْ، وَلَيْسَتِ الأُولَى أحَقَّ مِنَ الآخِرَةِ‏)‏‏.‏

وذكر أبو داود عنه‏:‏ ‏(‏إذَا لَقِىَ أحَدُكُمْ صَاحِبَهُ فَلْيُسَلِّم عَلَيْهِ، فَإنْ حَالَ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أو جِدَارٌ، ثُمَّ لَقِيَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ أيْضاً‏)‏‏.‏

وقال أنس‏:‏ ‏(‏كانَ أصحابُ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَتَمَاشَوْنَ، فَإذَا اسْتَقْبَلْتَهُم شَجَرَةٌ أَوْ أَكَمَةٌ، تَفَرَّقُوا يَمِيناً وَشِمَالاً، وَإذَا الْتَقَوْا مِنْ وَرَائِهَا، سَلَّمَ بَعْضُهُم عَلَى بَعْضٍ‏)‏‏.‏

ومن هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم أن الداخِل إلى المسجد يبتدئُ بركعتين تحيةَ المسجد، ثم يجئُ فيُسلِّم على القوم، فتكون تحيةُ المسجد قبلَ تحية أهله، فإن تلك حقُّ اللَّهِ تعالى، والسلامُ على الخلق هو حقٌ لهم، وحقُّ اللَّهِ في مثل هذا أحقُّ بالتقديم، بخلاف الحقوق المالية، فإن فيها نزاعاً معروفاً، والفرقُ بينهما حاجةُ الآدمى وعدمُ اتساع الحق المالى لأداء الحقين، بخلاف السلام‏.‏

وكانت عادةُ القوم معه هكذا، يدخلُ أحدهم المسجدَ، فيُصلى ركعتين، ثم يجئُ، فيسلِّم على النبى صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاء في حديث رفاعة بن رافع أن النبى صلى الله عيه وسلم بَيْنَمَا هُو جَالِس في المسجدِ يَوْماً قال رِفاعة‏:‏ ونحن معه إذ جاء رجلٌ كالبدوى، فصلَّى، فأخَفَّ صلاته، ثمَّ انصَرفَ فَسَلَّمَ عَلَى النبىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَعَلَيْكَ فَارْجعْ، فَصَلِّ، فَإنَّكَ لَمْ تُصَلَّ‏)‏‏.‏‏.‏ وذكر الحديث فأنكر عليه صلاته، ولم يُنكر عليه تأخيرَ السلام عليه صلى اللَّه عليه وسلم إلى ما بعد الصلاة‏.‏

وعلى هذا‏:‏ فيُسَن لداخل المسجد إذا كان فيه جماعة ثلاثُ تحيات مترتبة‏:‏ أن يقولَ عند دخولِه‏:‏ بسم اللَّه والصلاةُ على رسول اللَّه‏.‏ ثم يصلِّى ركعتينِ تحيةَ المسجد، ثم يُسلِّمُ على القوم‏.‏

فصل

‏(‏وكان إذا دخَلَ على أهله باللَّيل، يُسلِّم تسلِيماً لا يُوقِظُ النَّائِمَ، ويُسْمِعُ اليَقْظَانَ‏)‏ ذكره مسلم‏.‏

فصل‏:‏ في البدء بالسلام قبل الكلام

وذكر الترمذى عنه عليه السلام‏:‏ ‏(‏السَّلامُ قَبْلَ الكَلام‏)‏‏.‏

وفى لفظ آخر‏:‏ ‏(‏لا تَدْعُوا أحَداً إلى الطَّعَامِ حَتَّى يُسلِّمَ‏)‏‏.‏

وهذا وإن كان إسناده وما قبله ضعيفاً، فالعمل عليه‏.‏

وقد روى أبو أحمد بإسناد أحسن منه من حديث عبد العزيز بن أبى رواد، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏السَّلامُ قَبْلَ السُّؤالِ، فَمَنْ بَدَأَكُم بالسُّؤَال قَبْلَ السَّلاَمِ، فَلا تُجِيبُوهُ‏)‏‏.‏

ويُذكر عنه أنه كانَ لا يَأذَنُ لِمَن لَمْ يَبْدأْ بالسَّلامِ، ويُذكر عنه‏:‏ ‏(‏لا تَأْذَنُوا لِمَنْ لَمْ يَبْدأْ بالسَّلامِ‏)‏‏.‏

وأجود منها ما رواه الترمذى عن كَلَدَةَ بنْ حَنْبَلٍ، أنَّ صفوان بن أُمية بعثه بِلَبَنٍ وَلَبأ وَجِدَايَةٍ وَضَغَابِيْسَ إلى

النبى صلى الله عليه وسلم والنبىُّ صلى الله عليه وسلم بأعْلَى الوَادِى قَالَ‏:‏ فَدَخَلْتُ عَلَيّهِ، وَلَمْ أُسَلِّمْ، وَلَمْ أَسْتَأذِنْ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ارْجِعْ فَقُلْ‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أأدْخُلُ‏)‏‏؟‏، قال‏:‏ هذا حديث حسن غريب‏.‏

وكان إذَا أتى باب قوم، لم يسْتَقْبِل البابَ مِن تلقاء وجهه، ولكن مِن رُكته الأيمن، أو الأَيْسَرِ، فيقول‏:‏ ‏(‏السَّلاَمُ عَلَيْكُم، السَّلامُ عَلَيْكُمْ‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في التسليم على مَن يواجهه وتحمله السلام للغائب

وكان يُسلِّم بنفسه على مَن يُواجهه، ويُحَمِّلُ السَّلامَ لمن يُريد السَّلام عليه مِن الغائبين عنه، ويتحمَّل السلامَ لمن يبلِّغه إليه، كما تحمَّل السلام مِن اللَّه عَزَّ وجَلَّ على صِّدِّيقةِ النساء خديجةَ بنت خويلد رضى اللَّه عنها لما قال له جبريلُ‏:‏ ‏(‏هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أتَتْكَ بِطَعَامٍ، فَاقْرَأْ ‏[‏عَلَيْهَا‏]‏ السَّلامَ مِنْ ربِّهَا‏)‏ ‏[‏ومِنِّى‏]‏ وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ في الجَنَّةِ‏)‏‏.‏

وقال للصِّدِّيقة الثانية بنت الصِّديق عائشةَ رضى اللَّه عنها‏:‏ ‏(‏هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأْ عَلَيْكِ السَّلامَ‏)‏ فَقَالَتْ‏:‏ وَعَلَيْهِ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُه، يَرَى مَا لاَ أرَى‏.‏

فصل‏:‏ في انتهاء السلام إلى‏:‏‏(‏وبركاته‏)‏

وكان هديُه انتهاء السلام إلى‏:‏ ‏(‏وبركاتُهُ‏)‏، فذكر النَّسائى عنه ‏(‏أن رجلاً جاء فقال‏:‏ السَّلامُ عليكم، فَرَدَّ عَلَيْهِ النبىُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ‏:‏ ‏(‏عَشْرَةٌ‏)‏ ثُمَّ جلس، ثم جَاءَ آخَرُ، فَقَالَ‏:‏ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ‏:‏ ‏(‏عِشْرُونَ‏)‏ ثُمَّ جَلَسَ وَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّه وبَرَكَاتُه، فَرَدَّ عَلَيْهِ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏ثَلاثُونَ‏)‏ رواهُ النَّسائى، والترمذى من حديث عمران بن حصين، وحسَّنه‏.‏

وذكره أبو داود من حديثِ معاذِ بن أنسِ، وزاد فيه‏:‏ ‏(‏ثُمَّ أتى آخَرُ فَقَالَ‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أرْبًَعُونَ‏)‏ فقَالَ‏:‏ هكذَا تكُونُ الفَضَائِلُ‏)‏‏.‏ ولا يثبت هذا الحديثُ، فإن له ثلاث علل‏:‏ إحداها‏:‏ أنه من رواية أبى مرحوم عبد الرحيم بن ميمون، ولا يُحتج به‏.‏ الثانية‏:‏ أن فيه أيضاً سهلَ بن معاذ وهو أيضا كذلك، الثالثة‏:‏ أن سعيد بن أبى مريم أحدَ رواته لم يجزم بالرواية بل قال‏:‏ أظنُّ أنى سمعتُ نافع بن يزيد‏.‏

وأضعفُ مِن هذَا الحديثُ الآخر عن أنس‏:‏ كان رجل يمُر بالنبىِّ صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكَ يا رسول اللَّه، فيقولُ له النبىُ صَلى الله عَليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُه وَمَغْفِرَتُه وَرضْوَانُه‏)‏ فقيل له‏:‏ يا رسول اللَّه ؛ تُسَلِّم على هذا سلاماً ما تُسلِّمه على أحدٍ من أصحابك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ومَا يَمْنَعُنى مِنْ ذلِكَ، وَهُوَ يَنْصَرِفُ بِأَجْرِ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً‏)‏، وكَانَ يَرْعَى عَلَى أصْحَابِهِ‏.‏

فصل‏:‏ في التسليم ثلاثاً

وكان من هَدْيه صلى اللَّه عليه وسلم أن يُسلِّمَ ثلاثاً كما في ‏(‏صحيح البخارى‏)‏ عن أنس رضى اللَّه عنهُ قال‏:‏ كانَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏(‏إذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أعَادَهَا ثَلاثاً حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإذَا أتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ سَلَّمَ ثَلاثاً‏)‏، ولعل هذا كان هَدْيَه في السلام على الجمع الكثير الذين لا يبلغُهم سلام واحد، أو هَدْيَه في إسماع السلام الثانى والثالث، إن ظنَّ أن الأولَ لم يحصُل به الإسماع كما سلَّم لما انتهى إلى منزل سعد بن عُبادة ثلاثاً، فلما لم يُجبه أحد رجع، وإلا فلو كان هَدْيُه الدائمُ التسليمَ ثلاثاً لكان أصحابُه يُسلِّمونَ عليه كذلك، وكان يُسلِّمُ على كُلِّ مَن لقيه ثلاثاَ، وإذا دخل بيته ثلاثاً، ومَن تأمل هَدْيَه، علِم أن الأمر ليس كذلك، وأنَّ تكرار السلامِ كان منه أمراً عارضاً في بعض الأحيان، واللَّه أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في بدئه مَن لقيه بالسلام والرد على التحية بمثلها أو أفضل منها

وكان يبدأ مَن لقيه بالسلام، وإذا سلَّم عليه أحدٌ، ردَّ عليهِ مِثلَ تحيته أو أفضلَ منها على الفور من غير تأخير، إلا لِعذر، مثل حالة الصلاة، وحالة قضاء الحاجة‏.‏

وكان يُسمِعُ المسلم ردَّهُ عليه، ولم يكن يَرُدُّ بيده ولا رأسه ولا أصبعه إلا في الصلاة، فإنه كان يرد على مَن سلَّم عليه إشارة، ثبتَ ذلك عنه في عدة أحاديث، ولم يجئ عنه ما يعارضها إلا بشئ باطل لا يصح عنه كحديث يرويه أبو غطفان - رجل مجهول - عن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ أَشَارَ في صَلاَتِهِ إشَارَةً تُفْهمُ عَنْهُ، فَلْيُعِدْ صَلاتَهُ‏)‏ قال الدارقطنى‏:‏ قال لنا ابن أبى داود‏:‏ أبو غطفان هذا رجل مجهول، والصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يُشير في الصلاة، رواه أنس وجابر وغيرهما عن النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

فصل‏:‏ في صفة السلام

وكان هَدْيه في ابتداء السلام أن يقول‏:‏ ‏(‏السَّلامُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ اللَّهِ‏)‏، وكان يكره أن يقول المبتدئ‏:‏ عليك السلام‏.‏

قال أبو جُرَىَّ الهُجيمىُّ‏:‏ أتيتُ النبىَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ‏:‏ عَلَيكَ السَّلاَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلامُ، فَإنَّ عَلَيْكَ السَّلامُ تَحيةُ المَوْتَى‏)‏ حديث صحيح‏.‏

وقد أشكل هذا الحديثُ على طائفة، وظنُّوهُ معارضاً لما ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم في السلام على الأموات بلفظ‏:‏ ‏(‏السَّلامُ عَلَيْكُم‏)‏ بتقديم السلام، فظنوا أن قوله‏:‏ ‏(‏فإن عليكَ السلام تَحيَّةُ المَوْتَى‏)‏ إخبار عن المشروع، وغلِطُوا في ذلك غلطاً أوجب لهم ظَنَّ التعارض، وإنما معنى قوله‏:‏ ‏(‏فإنَّ عَلَيْكَ السَّلامُ تَحيَّةُ المَوْتَى‏)‏ إخبار عن الواقع، لا المشروعُ، أى‏:‏ إن الشعراء وغيرَهم يحيُّون الموتى بهذه اللفظة، كقول قائلهم‏:‏

عَلَيْكَ سَلاَمُ اللَّهِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ وَرَحْمَتُـهُ مَا شـَاءَ أنْ يَتَرحَّمــَا

فَمَا كَانَ قَيْسُ هُلْكُه هُلْكَ واحِدٍ وَلَكــنَّهُ بُنْيَـانُ قَــوْمٍ تهدَّمَـا

فكره النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن يُحيَّى بتحية الأموات، ومِن كراهته لذلك لم يردَّ على المسلِّم بها‏.‏

وكان يردُّ على المُسلِّمِ‏:‏ ‏(‏وَعَلَيْكَ السَّلامُ‏)‏ بالواو، وبتقديم ‏(‏عَلَيْكَ‏)‏ على لفظ السلام‏.‏

وتكلم الناسُ هاهنا في مسألة، وهى لو حذف الرادُّ ‏(‏الواو‏)‏ فقالَ‏:‏ ‏(‏عَلَيْكَ السَّلاَمُ‏)‏ هَلْ يكونُ صحيحاً‏؟‏ فقالت طائفة منهم المتولى وغيرُه‏:‏ لا يكون جواباً، ولا يسقط به فرضُ الردِّ، لأنه مخالِف لسُـنَّة الردِّ، ولأنه لا يُعلم‏:‏ هل هو رد، أو ابتداء تحية‏؟‏ فإن صورته صالحة لهما، ولأن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُم أَهْلُ الكِتَابِ، فَقُولُوا‏:‏ ‏(‏وعَلَيْكُم‏)‏ فهذا تنبيهٌ منه على وجوب الردِّ على أهلِ الإسلام، فإن ‏(‏الواو‏)‏ في مثل هذا الكلام تقتضى تقريرَ الأول، وإثبات الثانى، فإذا أُمِرَ بالواو في الرد على أهل الكتاب الذين يقولون‏:‏ السام عليكم، فقالَ‏:‏ ‏(‏إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُم أهْلُ الكِتَابِ، فَقُولُوا‏:‏ وعَلَيْكُم‏)‏ فَذِكْرُها في الردِّ على المسلمين أولى وأحرى‏.‏

وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك ردٌ صحيح، كما لو كان بالواو، ونص عليه الشافعى رحمه اللَّه في كتابه الكبير، واحتج لهذا القول بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 24-25‏]‏، قَالَ سَلامٌ أى‏:‏ سلام عليكم، لا بد من هذا، ولكن حسُنَ الحذفُ في الرد، لأجل الحذف في الابتداء، واحتجوا بما في ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعاً، فَلَمَّا خَلَقَهُ، قَالَ لَهُ‏:‏ اذْهَبْ فَسَلِّم عَلَى أُولَئِكَ النَّفَر مِن المَلائِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فقَالَ‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكُم فَقَالُوا‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّه، فَزَادُوهُ‏:‏ ‏(‏وَرَحْمَةُ اللَّهِ‏)‏‏.‏ فقد أخبرَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم أن هذه تحيتُهُ وتحيةُ ذُرِّيته، قالوا‏:‏ ولأن المسلَّم عَلَيْهِ مَأْمُورٌ أن يُحيِّى المُسلِّمَ بمثل تحيته عدلاً، وبأحسنَ منها فضلاً، فإذا ردَّ عليه بمثل سلامه، كان قد أتى بالعدلِ‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏إذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الكِتَابِ فَقُولُوا‏:‏ وَعَلَيْكُم‏)‏، فهذا الحديثُ قد اختُلِفَ في لفظة ‏(‏الواو‏)‏ فيه، فروى على ثلاثة أوجه، أحدها‏:‏ بالواو، قال أبو داود‏:‏ كذلك رواه مالك عن عبد اللَّه بن دينار، ورواه الثورى عن عبد اللَّه بن دينار، فقال فيه‏:‏ ‏(‏فعليكم‏)‏، وحديث سفيان في ‏(‏الصحيحين‏)‏ ورواه النسائى من حديث ابن عُيينة عن عبد اللَّه بن دينار بإسقاط ‏(‏الواو‏)‏، وفى لفظ لمسلم والنسائى‏:‏ فقل‏:‏ ‏(‏عليك‏)‏ - بغير واو‏.‏

وقال الخطابى‏:‏ عامةُ المحدِّثين يروونه‏:‏ ‏(‏وعليكم‏)‏ بالواو، وكان سفيان ابن عيينة يرويه‏:‏ ‏(‏عليكم‏)‏ بحذف الواو، وهو الصوابُ، وذلك أنه إذا حذف الواو، صار قولهم الذي قالوه بعينه مردوداً عليهم، وبإدخال الواو يقع الاشتراك معهم، والدخول فيما قالوا، لأن الواو حرفٌ للعطف والاجتماع بين الشيئين‏.‏‏.‏‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وما ذكره من أمر الواو ليس بمشكل، فإن ‏(‏السَّام‏)‏ الأكثرون على أنه الموت، والمسلِّم والمسلَّم عليه مشتركون فيه، فيكون في الإتيان بالواو بيانٌ لعدم الاختصاص، وإثبات المشاركة، وفى حذفِهَا إشعار بأن المسلِّم أحقُّ به وأولى من المسلَّم عليه وعلى هذا فيكون الإتيانُ بالواو هو الصواب، وهو أحسنُ من حذفها، كما رواه مالك وغيرُهُ، ولكن قد فُسِّر السَّام بالسآمة، وهى الملالة وسآمة الدين، قالوا‏:‏ وعلى هذا فالوجه حذف الواو ولا بدَّ، ولكن هذا خلافُ المعروف من هذه اللفظة في اللغة، ولهذا جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏إنَّ الحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إلاَّ السَّامَ‏)‏ ولا يختلفون أنه الموت، وقد ذهب بعض المُتحذلقين إلى أنه يرد عليهم السِّلام - بكسر السين - وهى الحجارة، جمع سِلَمة، وردُّ هذا الرَّدُّ متعيَّن‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في السلام على أهلِ الكِتاب

صَحَّ عنه صلى اللَّه عليه وسلم أنَّه قال‏:‏ ‏(‏لا تَبْدَؤوهُمْ بِالسَّلامِ، وَإذَا لَقيتُموهُمْ في الطَّرِيقِ، فاضْطَّروهُمْ إلَى أضْيَقِ الطَّرِيقِ‏)‏، لكن قَد قِيل‏:‏ إن هذا كان في قضيةٍ خاصةٍ لـمَّا سارُوا إلى بنى قُريظة قال‏:‏ ‏(‏لاَ تَبْدَؤوهُمْ بالسَّلام‏)‏ فهل هذا حُكْمٌ عام لأهْلِ الذمّة مطلقاً، أو يختَصُّ بِمَنْ كانَتْ حالُه بمثل حالِ أولئك‏؟‏ هذا موضِعُ نظر، ولكن قد روى مسلم في ‏(‏صحيحه‏)‏ من حديث أبى هُريرة أن النبىَّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لاَ تَبْدَؤوا اليَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى بالسَّلامِ، وَإذَا لَقِيْتُم أحَدَهُم في الطَّريق، فَاضْطَرُّوهُ إلى أَضْيَقِهِ‏)‏ والظَّاهر أن هذا حكم عام‏.‏

وقد اختلف السَلَفُ والخَلَفُ في ذلك، فقال أكثرُهم‏:‏ لا يُبدؤون بالسلام، وذهب آخرون إلى جواز ابتدائهم كما يُردُّ عليهم، رُوى ذلك عن ابن عباس، وأبى أُمامة، وابْنِ مُحَيْرِيز، وهو وجه في مذهب الشافعى رحمه اللَّه، لكن صاحبُ هذا الوجه قال‏:‏ يُقال له‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكَ، فقط بدونِ ذكر الرحمة، وبلفظ الإفراد، وقالت طائفة‏:‏ يجوزُ الابتداءُ لِمصلحة راجحة مِن حاجة تكون له إليه، أو خوف مِن أذاه، أو لِقرابةٍ بينهما، أو لِسببٍ يقتضِى ذلك، يُروى ذلك عن إبراهيم النَّخعى، وعلقمَة‏.‏ وقال الأوزاعىُّ‏:‏ إن سلَّمْتَ، فقد سلَّمَ الصالحونَ، وإن تركتَ، فقد ترك الصَّالِحون‏.‏

واختلفوا في وجوب الرد عليهم، فالجمهورُ على وجوبه، وهو الصوابُ، وقالت طائفة‏:‏ لا يجبُ الردُّ عليهم، كما لا يجبُ على أهل البدع وأولى، والصواب الأول، والفرق أنَّا مأمورون بهجر أهلِ البدع تعزيراً لهم، وتحذيراً منهم، بخلاف أهل الذمة‏.‏

فصل

وثبت عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه مرَّ على مجلس فيه أخلاطٌ مِن المُسْلِمِينَ، والمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ، واليَهُودِ، فَسَلَّم عليْهم‏.‏

وصحّ عنه أنه كتب إلى هِرَقلَ وَغَيْرِهِ‏:‏ ‏(‏السَّلامُ على مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في هل يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يُسلِّم أحدهم

ويُذكُر عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه قال‏:‏ ‏(‏يُجْزِىءُ عَنِ الجَمَاعَةِ إذَا مَرُّوا أنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُم، وَيُجْزِىءُ عَن الجُلُوسِ أنْ يَرُدَّ أحَدُهُم‏)‏ فذهب إلى هذا الحديثِ مَنْ قال‏:‏ إن الردَّ فرضُ كِفاية يقومُ فيه الواحدُ مقام الجميع، لكن ما أحسنه لو كان ثابتاً، فإن هذا الحديث رواه أبو داودَ مِن رواية سعيد بن خالد الخزاعى المدنى، قال أبو زرعة الرازى‏:‏ مدنى ضعيف، وقال أبو حاتم الرازى‏:‏ ضعيف الحديث، وقال البخارى‏:‏ فيه نظر‏.‏ وقال الدارقطنى‏:‏ ليس بالقوى‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه إذ بلَّغه أحد السلام عن غيره أن يرد عليه وعلى المبلِّغ

وكان من هَدْيه - صلى اللَّه عليه وسلم - إذا بلَّغَهُ أحدٌ السلامَ عن غيره أن يردَّ عليه وعلى المبلِّغ، كما في ‏(‏السنن‏)‏ أن رجلاً قال له‏:‏ إنَّ أبى يُقْرِئُكَ السَّلامَ، فَقَالَ لهُ‏:‏ ‏(‏عَلَيْكَ وَعَلَى أبِيكَ السَّلامَ‏)‏‏.‏

وكان من هَدْيه تركُ السَّلام ابتداءً ورَداً على مَن أحدث حدثاً حتى يتوبَ منه، كما هجر كعبَ بنَ مالك وصاحبَيْه، وكان كعب يُسلِّم عليه، ولا يَدرى هَلْ حَرَّكَ شَفتيه بردِّ السَّلامِ عَلَيْهِ أم لا‏؟‏‏.‏

وسلَّم عليه عمارُ بنُ ياسرٍ، وقد خَلَّقه أهلُهُ بزَعفران، فلم يردَّ عليه، فقال‏:‏ ‏(‏اذْهبْ فاغْسِلْ هَذَا عَنْكَ‏)‏‏.‏

وهجر زينب بنت جحش شهرين وبعضَ الثالث لـمَّا قال لها‏:‏ ‏(‏أعْطِى صفيَّة ظهَراً‏)‏ لما اعتلَّ بعيرُها، فَقَالت‏:‏ أنَا أعْطِى تِلْكَ اليهودِيَّةَ‏؟‏، ذكرهما أبو داود‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في الاستئذان

وصحَّ عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه قال‏:‏ ‏(‏الاسْتِئذَانُ ثَلاَثٌ، فَإنْ أُذِنَ لَكَ وَإلاَّ فارْجِعْ‏)‏‏.‏

وصحَّ عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه قال‏:‏ ‏(‏إنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أجْلِ البَصَر‏)‏‏.‏

وصحَّ عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه أراد أن يفَقَأ عَيْنَ الذي نَظَر إلَيْهِ مِنْ جُحْرٍ في حجرته، وقال‏:‏ ‏(‏إنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أجْلِ البَصَر‏)‏‏.‏

وصحَّ عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏لَوْ أنَّ امْرءاً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ‏)‏‏.‏

وصحَّ عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏مَنِ اطَّلَعَ عَلَى قَوْمٍ في بَيْتِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِهِم، فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أنْ يَفْقَؤوا عَيْنَهُ‏)‏‏.‏

وصحَّ عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏مَنِ اطَّلَعَ في بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَفَقَؤوا عَيْنَهُ، فلاَ دِيةَ لَهُ، ولا قِصَاصَ‏)‏‏.‏

وصح عنه‏:‏ التسليمُ قبل الاستئذان فعلاً وتعليماً، واستأذن عليه رجلٌ، فقالَ‏:‏ أَأَلِجُ‏؟‏ فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ‏:‏ ‏(‏اخْرُجْ إلى هَذَا، فَعَلِّمْهُ الاسْتِئْذَان‏)‏، فَقَالَ لَهُ‏:‏ قل‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُل‏؟‏ فسمعه الرَّجُلُ، فَقَالَ‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكُم، أَأَدْخُلُ‏؟‏ فَأَذِنَ له النبى صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ‏.‏

ولـمَّا اسْتَأْذَنَ عليه عُمَرُ رَضِىَ اللَّه عنه، وهو في مَشْرُبِتَهِ مُؤلِياً مِنْ نِسَائِهِ، قال‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رسول اللَّه، السَّلامُ عليكم، أيَدْخُلُ عُمَرُ‏؟‏‏.‏

وقد تقدَّم قولهُ - صلى اللَّه عليه وسلم - لِكَلَدَةَ بْنِ حَنْبَل لما دخل عليه ولم يُسلِّم‏:‏ ‏(‏ارْجعْ فَقُلْ‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكُم أَأَدْخُل‏)‏‏؟‏‏.‏

وفى هذه السنن ردٌ على مَن قال‏:‏ يُقدَّمُ الاستئذان على السلام، وردٌ على مَن قال‏:‏ إن وقعت عينُه على صاحب المنزل قبل دخوله، بدأ بالسَّلام، وإن لم تقع عينه عليه، بدأ بالاستئذان، والقولان، مخالفان للسُّـنَّة‏.‏

وكان من هَدْيه - صلى اللَّه عليه وسلم - إذا استأذَنَ ثلاثاً ولم يُؤذن له، انصرف، وهو ردٌ على مَن يقول‏:‏ إن ظنَّ أنهم لم يسمعوا، زاد على الثلاث، وردٌ على مَن قال‏:‏ يُعيدُهُ بلفظٍ آخر، والقولان مخالفان للسُّـنَّة‏.‏

فصل‏:‏ في المستأذِن كيف يرد إذا سُئِل عن اسمه

وكان من هَدْيه أن المستأذِنَ إذا قِيلَ له‏:‏ مَنْ أنْتَ‏؟‏ يقول‏:‏ فلانُ بنُ فلان، أو يذكر كُنيته، أو لَقبه، ولا يقول‏:‏ أنا، كما قال جِبْرِيلُ للملائكة في ليلة المعراج لما استفتح بابَ السماء فسألوه‏:‏ مَنْ‏؟‏ فقال‏:‏ جِبريلُ، واستمر ذلك في كل سماء سماء‏.‏

وكذلك في ‏(‏الصحيحين‏)‏ لما جَلَس النبى صلى الله عليه وسلم في البُسْتَان، وجاء أبو بكر رضى اللَّه عنه، فاستأذن فقال‏:‏ ‏(‏مَن‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ أبو بكر، ثم جاء عمر، فاستأذنَ فقالَ‏:‏ ‏(‏مَن‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ عمر، ثم عثمانُ كذلك‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏، عن جابر‏:‏ أتيتُ النبى صلى الله عليه وسلم، فدققتُ البابَ فقال‏:‏ ‏(‏مَن ذا‏)‏‏؟‏ فقلت‏:‏ أنَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أنَا أنَا‏)‏، كَأَنَّهُ كَرِهَهَا‏.‏

ولما استأذنت أُمُّ هانئ، قال لها‏:‏ ‏(‏مَنْ هذِهِ‏)‏‏؟‏ قالت‏:‏ أُمُّ هانئ، فلم يكره ذِكرها الكُنية، وكذلك لما قال لأبى ذر‏:‏ ‏(‏مَنْ هَذَا‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَبُو ذر، وكذلك لما قال لأبى قتادة‏:‏ ‏(‏مَنْ هَذَا‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ أبو قتادة‏.‏

فصل‏:‏ في أن رسول الرجل إلى الرجل إذن له

وقد روى أبو داود عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - من حديث قتادة، عن أبى رافع، عن أبى هُريرة‏:‏ ‏(‏رَسُولُ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ إذْنُه‏)‏‏.‏ وفى لفظ‏:‏ ‏(‏إذَا دُعِىَ أحَدُكُم إلى طَعَامٍ، ثُمَّ جَاءَ مَعَ الرَّسُولِ، فَإنَّ ذلِكَ إذْنٌ لَهُ‏.‏ وهذا الحديث فيه مقال، قال أبو على اللؤلؤى‏:‏ سمعتُ أبا داود يقول‏:‏ قتادة لم يسمع من أبى رافع‏.‏ وقال البخارى في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ وقال سعيد‏:‏ عن قتادة، عن أبى رافع، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هو إذنه‏)‏، فذكره تعليقاً لأجل الانقطاع في إسناده‏.‏

وذكر البخارى في هذا الباب حديثاً يدلُّ على أن اعتبار الاستئذان بعد الدعوة، وهو حديثُ مجاهد عن أبى هريرة‏:‏ دخلتُ مع النبى صلى الله عليه وسلم، فوجدتُ لبناً في قدح، فقال‏:‏ ‏(‏اذْهَبْ إلى أهْلِ الصُّفّةِ، فادْعهُمُ إلىَّ‏)‏ قال‏:‏ فَأَتَيْتُهم، فدعوتُهم، فأقبلوا، فاستأذنوا، فأذن لهم، فدخَلُوا‏.‏ وقد قالت طائفةٌ‏:‏ بأن الحديثين على حالين، فإن جاء الداعى على الفور مِن غير تراخ، لم يحتج إلى استئذان، وإن تراخى مجيئه عن الدعوة، وطال الوقتُ، احتاجَ إلى استئذان‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إن كان عند الداعى مَن قد أذِنَ له قبل مجئ المدعو، لم يحتج إلى استئذان آخر، وإن لم يكن عنده مَن قد أذِنَ له، لم يدخل حتى يستأذن‏.‏

وكان رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذا دخل إلى مَكَان يُحب الانفراد فيه، أمَرَ مَن يُمْسِكُ البابَ، فلم يَدخلْ عليه أحد إلا بإذن‏.‏

فصل‏:‏ في الاستئذان الذي أمر الله به المماليكَ ومَن لم يبلغ الحُلُم

وأما الاستئذانُ الذي أمر اللَّه به المماليكَ، ومَنْ لم يَبْلُغِ الحُلُمَ، في العوراتِ الثلاثِ‏:‏ قبلَ الفجر، ووقتَ الظهيرة، وعند النوم، فكان ابنُ عباس يأمرُ به، ويقول‏:‏ ترك الناسُ العملَ بها، فقالت طائفة‏:‏ الآيةُ منسوخة، ولم تأتِ بحُجة، وقال طائفة‏:‏ أمرُ ندبٍ وإرشاد، لا حتم وإيجاب، وليس معها ما يدل على صرف الأمر عن ظاهره، وقالت طائفة‏:‏ المأمور بذلك النساءُ خاصة، وأما الرجالُ، فيستأذِنون في جميع الأوقات، وهذا ظاهرُ البطلان، فإن جمع ‏(‏الذين‏)‏ لا يختص به المؤنث، وإن جاز إطلاقُه عليهن مع الذكور تغليباً‏.‏ وقالت طائفة عكس هذا‏:‏ إن المأمورَ بذلك الرجال دون النساء، نظراً إلى لفظ‏:‏ ‏(‏الذين‏)‏ في الموضعين، ولكن سياقُ الآية يأباه فتأمله‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ كان الأمرُ بالاستئذان في ذلك الوقت للحاجة، ثم زالت، والحكمُ إذا ثبت بعلَّةٍ زال بزوالها، فروى أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏ أن نفراً من أهل العراق قالوا لابن عباس‏:‏ يا ابن عباس، كيف ترى هذه الآية التي أُمِرْنَا فيها بِمَا أُمِرْنَا، ولا يَعملُ بها أحدٌ‏:‏ ‏{‏يَأيُّها الَّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 58‏]‏ الآية‏.‏ فقال ابنُ عباس‏:‏ إن اللَّه حَكيمٌ رحيمٌ بالمؤمنين، يُحِبُّ السِّتْرَ، وكان الناسُ ليسَ لِبيُوتهم سُتُور ولا حِجَال، فربمَا دخلَ الخادِمُ، أو الولدُ أو يتيمُة الرجل، والرجلُ على أهله، فأمرهم اللَّهُ بالاستئذان في تلك العَوَرَاتِ، فجاءهم اللَّهُ بالسُّتُور والخير، فلم أر أحداً يَعْمَلُ بذلك بَعْدُ‏.‏

وقد أنكر بعضُهم ثبوتَ هذا عن ابن عباس، وطعن في عِكرمة، ولم يصنع شيئاً، وطعن في عَمْرو بن أبى عمرو مولى المطلب، وقد احتج به صاحبا الصحيح، فإنكارُ هذا تعنُّت واستبعاد لا وجه له‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ الآية محكمة عامة لا مُعارِضَ لها ولا دافع، والعملُ بها واجب، وإن تركه أكثرُ الناس‏.‏

والصحيح‏:‏ أنه إن كان هناك ما يقوم مقامَ الاستئذانِ من فتح باب فتحُه دليل على الدخول، أو رفع ستر، أو تردُّد الداخل والخارج ونحوه، أغنى ذلك عن الاستئذان، وإن لم يكن ما يقومُ مقامه، فلا بُد منه، والحكم معلَّلٌ بعلَّة قد أشارت إليها الآية، فإذا وُجِدَتْ، وُجِدَ الحكمُ، وإذا انتفت انتفى‏.‏ واللَّه أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في أذكار العطاس

ثبت عنه صلى اللَّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنَّ اللَّه يُحِبُّ العُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤبَ، فَإذَا عَطَسَ أَحَدُكُم وَحَمِدَ اللَّه، كَانَ حَقّاً عَلَى كُلِّ مُسْلِم سَمِعَهُ أنْ يَقُولَ لَهُ‏:‏ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وأمَّا التَّثَاؤُبُ، فإنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإذَا تَثَاءَبَ أحدُكُم، فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإنَّ أَحَدَكُم إذَا تَثَاءَبَ، ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ‏)‏ ذكره البخارى‏.‏

وثبت عنه في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ ‏(‏إذا عَطَسَ أَحَدُكُم فَلْيَقُلْ‏:‏ الحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ‏:‏ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإذَا قَالَ لَهُ‏:‏ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُل‏:‏ يَهْدِيكُم اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏ عن أنس‏:‏ ‏(‏أنه عَطَسَ عِنْدَهُ رَجُلانِ، فشمَّتَ أحَدَهُمَا، ولم يُشمِّتِ الآخَر، فَقَالَ الذي لم يُشَمِّتْهُ‏:‏ عَطَسَ فُلانٌ فَشَمَّتَّهُ، وَعَطَسْتُ، فَلَمْ تُشَمِّتْنِى، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَذَا حَمِدَ اللَّهَ، وأنْتَ لَمْ تَحْمَدِ اللَّه‏)‏‏.‏

وثبت عنه في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏‏:‏ ‏(‏إذا عَطَسَ أحَدُكُم فَحَمِدَ اللَّهَ، فَشَمِّتُوهُ، فإنْ لَمْ يَحْمَدِ اللَّه، فَلاَ تُشَمِّتُوهُ‏)‏‏.‏

وثبت عنه في ‏(‏صحيحه‏)‏‏:‏ من حديث أبى هريرة‏:‏ ‏(‏حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ سِتٌ‏:‏ إذَا لَقِيتَهُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإذَا دَعَاك فَأجبْهُ، وَإذَا اسْتَنْصَحَكَ، فانْصَحْ لَهُ، وَإذَا عَطَسَ وَحَمِدَ اللَّهَ، فَشَمِّتْهُ، وَإذَا مَرِضَ، فَعُدْه، وَإذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ‏)‏‏.‏

وروىأبو داودعنه بإسناد صحيح‏:‏ ‏(‏إذَا عَطَسَ أَحَدُكُم فَلْيَقُلْ‏:‏ الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلْيَقُلْ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُه‏:‏ يَرْحَمُكَ اللَّه، وَلْيَقُلْ هُوَ‏:‏ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم‏)‏‏.‏

وروى الترمذى، أن رَجُلاً عَطَسَ عِندَ ابنِ عمر، فقال‏:‏ الحَمْدُ لِلَّه، والسلامُ عَلَى رسولِ اللَّهِ، فَقَالَ ابنُ عُمَرَ‏:‏ وأنَا أقُولُ‏:‏ الحمدُ لِلَّهِ والسلامُ على رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ هَكَذَا عَلَّمَنَا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَلَكِن عَلَّمَنَا أنْ نَقُولَ‏:‏ الحمْدُ لِلَّهِ على كُلِّ حال‏.‏

وذكر مالك، عن نافع، عن ابن عمر‏:‏ ‏(‏كَانَ إذَا عَطَسَ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، قَالَ‏:‏ يَرْحَمُنَا اللَّهُ وإيَّاكُم، ويَغْفِرُ لَنَا وَلَكُمْ‏)‏‏.‏

فظاهر الحديثِ المبدوء به‏:‏ أن التشميتَ فرضُ عَيْن على كُلِّ مَنْ سمع العاطس يحمَدُ اللَّه، ولا يُجْزِئ تشميتُ الواحد عنهم، وهذا أحدُ قولى العلماء، واختاره ابنُ أبى زيد، وأبو بكر بن العربى المالكيان، ولا دافع له‏.‏

وقد روى أبو داود‏:‏ أن رجلاً عَطَسَ عند النبى صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَعَلَيْكَ السَّلامُ وعَلَى أُمِّكَ‏)‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏إذَا عَطَسَ أَحَدُكُم، فَلْيَحْمَدِ اللَّه‏)‏ قال‏:‏ فذكر بَعضَ المَحَامِدِ، وليقُلْ لَهُ، مَنْ عِنْدَهُ‏:‏ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَلَيَرُدَّ - يَعْنِى عَلَيْهِم - يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ‏)‏‏.‏

وفى السلام على أُمِّ هذا المُسلِّم نُكتةٌ لطيفةٌ، وهى إشعارُه بأن سلامَه قد وقع في غير موقعه اللائق بِه، كما وقع هذا السلامُ على أُمِّه، فكما أن سلامه هَذَا في غير موضعه كذلك سلامه هو‏.‏

ونكتةٌ أخرى ألطفُ منها، وهى تذكيرُه بأُمِّه، ونسبه إليها، فكأنه أُمِّىٌ محض منسوب إلى الأُم، باقٍ على تربيتها لم تربِّه الرجالُ، وهذا أحدُ الأقوال في الأُمِّى، أنه الباقى على نسبته إلى الأُم‏.‏

وأما النبى الأُمِّى‏:‏ فهو الذي لا يُحسِنُ الكِتَابة، ولا يقرأ الكِتَابَ‏.‏

وأمَّا الأُمِّىُّ الذي لا تَصِحُّ الصلاةُ خلفه، فهو الذي لا يُصحح الفاتحة، ولو كان عالماً بعلوم كثيرة‏.‏

ونظيرُ ذكر الأُم هاهنا ذكرُ هَنِ الأب لمن تعزَّى بعزاءِ الجاهلية فيقال له‏:‏ اعضُضْ هَنَ أَبِيكَ، وكَانَ ذِكرُ هَنِ الأب هاهنا أحسن تذكيراً لهذا المتكبِّرِ بدعوى الجاهلية بالعُضو الذي خَرَجَ منه، وهو هَنُ أبيه، فَلاَ يَنْبَغِى لَهُ أن يتعدَّى طَوْرَهُ، كما أن ذِكرَ الأُم هاهنا أحسنُ تذكيراً له، بأنه باقٍ على أُمِّيته‏.‏ واللَّه أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما كان العاطِسُ قد حصلت له بالعُطاسِ نعمةُ ومنفعةُ بخروج الأبخرة المحتقِنة في دِماغه التي لو بقيت فيه أحدثت له أدواءً عَسِرَةً، شُرعَ له حمدُ اللَّه على هَذِهِ النعمة مع بقاء أعضائه على التئامها وهيئتها بعد هذه الزلزلة التي هي للبدن كزلزلة الأرض لها‏.‏

ولهذا يقال‏:‏ سمَّته وشمَّته - بالسين والشين - فقيل‏:‏ هما بمعنىً واحد، قاله أبو عبيدة وغيره‏.‏ قال‏:‏ وكلُّ داعٍ بخير، فهو مُشمِّتٌ ومُسَمِّتٌ‏.‏ وقيل‏:‏ بالمهملة دعاء له بحُسن السَّمتِ، وبعوده إلى حالته من السكون والدعة، فإن العُطاس يُحدث في الأعضاء حركةً وانزعاجاً‏.‏ وبالمعجمة‏:‏ دعاء له بأن يصرفَ اللَّه عنه ما يُشمِّتُ به أعداءَه، فشمَّته‏:‏ إذا أزال عنه الشماتة، كقرَّد البعيرَ‏:‏ إذا أزال قُرادَه عنه‏.‏

وقيل‏:‏ هو دعاء له بثباته على قوائمه في طاعة اللَّه، مأخوذ من الشوامِت، وهى القوائم‏.‏

وقيل‏:‏ هو تشميتٌ له بالشيطانِ، لإغاظته بحمْدِ اللَّهِ على نِعمة العُطاس، وما حصل له به من محابِّ اللَّه، فإن اللَّه يُحبه، فإذا ذكر العبدُ اللَّهَ وحَمِدَه، ساء ذلك الشيطان من وجوه، منها‏:‏ نفسُ العُطاس الذي يُحبُّه اللَّهُ، وحمدُ اللَّهِ عليه، ودعاءُ المسلمين له بالرحمة، ودعاؤه لهم بالهداية، وإصلاحُ البال، وذلك كُلُّه غائظ للشيطان، محزن له، فتشميتُ المؤمن بغيظ عدوه وحزنه وكآبته، فسمى الدعاءُ له بالرحمة تشميتاً له، لما في ضمنه من شماتته بعدوه، وهذا معنى لطيف إذا تنبه له العاطِسُ والمشمِّت، انتفعا به، وعَظُمَتْ عندهما منفعةُ نعمةِ العُطاس في البدن والقلب، وتبيَّن السِّرُّ في محبة اللَّه له، فلِلَّهِ الحمْدُ الذي هو أهلُه كما ينبغى لكريم وجهه وعِزِّ جلاله‏.‏

فصل‏:‏ في غض الصوت في العُطاس

وكان من هَدْيه - صلى اللَّه عليه وسلم - في العُطاس ما ذكره أبو داود والترمذى، عن أبى هريرة‏:‏ كانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ‏(‏إذَا عَطَس، وَضَعَ يَدَهُ أوْ ثَوْبَهُ عَلَى فِيهِ، وَخَفَضَ، أو غَضَّ بِهِ صَوْتَه‏)‏ ‏.‏ قال الترمذى‏:‏ حديث صحيح

ويُذكر عنه - صلى اللَّه عليه وسلم -‏:‏ أنَّ التَثَاؤُبَ الشَّدِيدَ، والعَطْسَةَ الشَّدِيدَةَ مِنَ الشَّيْطَانِ‏.‏

ويُذكر عنه‏:‏ أنَّ اللَّه يَكْرَهُ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّثَاؤُبِ والعُطَاسِ‏.‏

وصحَّ عنه‏:‏ أنه عطسَ عنده رجلٌ، فقال له‏:‏ ‏(‏يَرْحَمُكَ اللَّهُ‏)‏‏.‏ ثُمَّ عَطَسَ أُخْرَى، فقالَ‏:‏ ‏(‏الرَّجُلُ مَزْكُوم‏)‏‏.‏ هذا لفظ مسلم أنه قال في المرة الثانية، وأما الترمذى‏:‏ فقال فيه عَنْ سلمة بن الأكوع‏:‏ عَطَس رجلٌ عِند رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا شاهد، فقالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَرْحَمُكَ اللَّهُ‏)‏، ثُمَّ عَطَسَ الثَّانِيَةَ والثَّالِثَةَ، فَقَالَ رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هَذَا رَجُلٌ مَزْكُومٌ‏)‏‏.‏ قال الترمذى‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏

وقد روى أبو داود عن سعيد بن أبى سعيد، عن أبى هريرة موقوفاً عليه‏:‏ ‏(‏شَمِّتْ أخَاكَ ثلاثاً، فَمَا زَادَ، فَهُوَ زُكَامٌ‏)‏‏.‏

وفى رواية عن سعيد، قال‏:‏ لا أعلمه إلا أنه رفع الحديث إلى النبى صلى الله عليه وسلم بمعناه‏.‏ قال أبو داود‏:‏ رواه أبو نعيم، عن موسى بن قيس، عن محمد بن عجلان، عن سعيد، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏‏.‏ انتهى‏.‏

وموسى بن قيس هذا الذي رفعه هو الحضرمى الكوفى يُعرف بعُصفور الجنَّة‏.‏ قال يحيى ابن معين‏:‏ ثقة‏.‏ وقال أبو حاتم الرازى‏:‏ لا بأس به‏.‏

وذكر أبو داود، عن عُبيد بن رِفاعة الزُّرَقى، عن النبى صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏(‏تُشَمِّتُ العَاطِسَ ثَلاثاً، فَإنْ شِئْتَ، فَشَمِّتْهُ، وإنْ شِئْتَ فَكُفَّ‏)‏، ولكن له عِلّتان، إحداهما‏:‏ إرساله، فإن عبيداً هذا ليست له صحبة، والثانية‏:‏ أن فيه أبا خالد يزيد بن عبد الرحمن الدالانى، وقد تكلم فيه‏.‏

وفى الباب حديث آخر، عن أبى هريرة يرفعه‏:‏ ‏(‏إذَا عَطَسَ أحَدُكُم، فَلْيُشَمِّتْهُ جَلِيسُه، فإنْ زادَ عَلَى الثَّلاثَةِ، فَهُوَ مَزْكُومٌ، ولا تُشَمِّتْهُ بَعْدَ الثَّلاث‏)‏، وهذا الحديثُ هو حديثُ أبى داود الذي قال فيه‏:‏ رواه أبو نعيم، عن موسى بن قيس، عن محمد بن عجلان، عن سعيد، عن أبى هريرة، وهو حديث حسن‏.‏

فإن قيل‏:‏ إذا كان به زُكام، فهو أولى أن يُدعى له ممن لا عِلَّة به‏؟‏ قيل‏:‏ يُدعى له كما يُدعى للمريض، ومَن بِه داء ووجع‏.‏

وأما سُـنَّة العُطاس الذي يُحبه اللَّه، وهو نِعمة، ويدلُّ على خِفة البدنِ، وخرُوج الأبخرة المحتَقِنَةِ، فإنما يكون إلى تمام الثلاث، وما زاد عليها يُدعى لصاحبه بالعافية‏.‏

وقوله في هذا الحديث‏:‏ ‏(‏الرَّجُلُ مَزْكُومٌ‏)‏ تنبيه على الدعاء له بالعافية، لأن الزكمة عِلَّة، وفيه اعتذار من ترك تشميته بعد الثلاث، وفيه تنبيهٌ له على هذه العِلَّة ليتداركها ولا يهملها، فيصعُبَ أمرُهَا، فكلامه - صلى الله عليه وسلم - كله حكمة ورحمة، وعلم وهدى‏.‏

وقد اختلف الناس في مسألتين‏:‏ إحداهما‏:‏ أن العاطِسَ إذا حَمدَ اللَّهَ، فسمعه بعضُ الحاضرين دون بعض، هل يُسَنُّ لمن لم يسمعه تشميتُه‏؟‏ فيه قولان، والأظهر‏:‏ أنه يُشمته إذا تحقَّق أنه حَمِدَ اللَّه، وليس المقصودُ سماعَ المشمِّت للحمد، وإنما المقصود نفس حمده، فمتى تحقق ترتب عليه التشميتُ، كما لو كان المشمت أخرسَ، ورأى حركة شفتيه بالحمد‏.‏ والنبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏فإن حَمِدَ اللَّه، فشمِّتوه‏)‏ هذا هو الصواب‏.‏

الثانية‏:‏ إذا ترك الحمد، فهل يُستحبُّ لمن حضره أن يُذكِّرَه الحمد‏؟‏ قال ابن العربى‏:‏ لا يُذكِّره، قال‏:‏ وهذا جهل من فاعله‏.‏ وقال النووى‏:‏ أخطأ مَن زعم ذلك، بل يُذكِّره، وهو مروى عن إبراهيم النخعى‏.‏ قال‏:‏ وهو من باب النصيحة، والأمر بالمعروف، والتعاون على البرِّ والتقوى، وظاهر السُّـنَّة يقوى قول ابن العربى لأنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم لم يُشمِّتِ الذي عَطَسَ وَلَمْ يَحْمَدِ اللَّه، ولم يذكِّره، وهذا تعزير له، وحرمانٌ لبركة الدعاء لـمَّا حرم نفسه بركة الحمد، فنسى اللَّه، فصرفَ قلوب المؤمنين وألسنتهم عن تشميته والدعاء له، ولو كان تذكيرُه سُـنَّة، لكان النبى صلى الله عليه وسلم أولى بفعلها وتعليمِها، والإعانة عليها‏.‏

فصل

وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم -‏:‏ ‏(‏أنَّ اليَهُودَ كَانُوا يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَهُ، يَرْجُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ‏:‏ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، فكان يقولُ‏:‏ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بالَكُم‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في أذكار السفر وآدابه

صحَّ عنه - صلى اللَّه عليه وسلم - أنه قال‏:‏ ‏(‏إذَا هَمَّ أحَدُكُم بِالأمْر، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ، ثُمَّ لْيَقُلْ‏:‏ اللَّهُمَّ إنِّى أَسْتَخْيِرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، فَإنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الغُيوب، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَم أنَّ هَذَا الأمْرَ خَيْرٌ لى في دينى وَمَعَاشِى، وَعَاجِلِ أمْرِى وَآجِلِهِ، فَاقْدُرْهُ لى، وَيًَسِّرْهُ لى، وَبَارِكْ لى فيه، وإنْ كُنْتُ تَعْلَمُه شَراً لى في دِينِى ومَعَاشى، وَعَاجلِ أمْرِى وَآجِلِهِ، فَاصْرِفْهُ عنِّى، وَاصْرِفْنِى عَنْهٌُ، وَاقْدُرْ لى الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّنى به‏)‏ قال‏:‏ ويُسَمِّى حاجته، قال‏:‏ رواه البخارى‏.‏

فعوَّض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أُمَّته بهذا الدعاء، عما كان عليه أهلُ الجاهلية من زجر الطَّيْرِ والاستسقامِ بالأزلام الذي نظيرُه هذه القرعة التي كان يفعلُها إخوانُ المشركين، يطلُبون بها عِلمَ ما قُسِمَ لهم في الغيب، ولهذا سُمى ذلك استقساماً، وهو استفعال من القَسْم، والسين فيه للطلب، وعوَّضهم بهذا الدعاء الذي هو توحيدٌ وافتقارٌ، وعبوديةٌ وتوكُّلٌ، وسؤالٌ لِمن بيده الخيرُ كلُّهُ، الذي لا يأتى بالحسناتِ إلا هو، ولا يصرِفُ السيئات إلا هُو، الذي إذا فتح لعبده رحمة لم يستطِع أحدٌ حبسَها عنه، وإذا أمسكها لم يستطع أحدٌ إرسالَها إليه من التطيرِ والتَّنْجيمِ، واختيارِ الطالع ونحوه‏.‏ فهذا الدعاءُ، هو الطالِعُ الميمونُ السعيد، طالِعُ أهل السعادة والتوفيق، الذين سبقت لهم من اللَّه الحسنى، لا طالِع أهل الشِرك والشقاء والخِذلان، الذين يجعلون مع اللَّه إلهاً آخر، فسوف يعلمون‏.‏

فتضمن هذا الدعاءُ الإقرار بوجوده سبحانَه، والإقرارَ بصفاتِ كماله من كمال العِلم والقُدرة والإرادة، والإقرار بربوبيته، وتفويضَ الأمر إليه، والاستعانةَ به، والتوكُّلَ عليه، والخروجَ من عُهدة نفسه، والتبَّرِّى مِن الحَوْل والقوة إلا به، واعترافَ العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه وقدرته عليها، وإرادتِهِ لها، وأن ذلك كلَّه بيد وَليِّه وافطِرِهِ وإلههِ الحقِّ‏.‏

وفى ‏(‏مسند الإمام أحمد‏)‏ من حديث سعد بن أبى وقاص، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَةُ اللَّهِ ورضَاهُ بما قَضَى اللَّه، ومِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُ اسْتِخَارَةِ اللَّه، وَسَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّه‏)‏‏.‏

فتأمل كيف وقع المقدور مكتنفاً بأمرين‏:‏ التوكل الذي هو مضمونُ الاستخارة قبله، والرِّضا بما يقضى اللَّه له بعده، وهما عنوانُ السعادة‏.‏ وعنوان الشقاء أن يكتنِفَه تركُ التوكل والاستخارة قبله، والسخط بعده، والتوكّل قبل القضاء‏.‏ فإذا أُبرم القضاء وتم، انتقلت العبودية إلى الرضا بعده، كما في ‏(‏المسند‏)‏، وزاد النسائى في الدعاء المشهور‏:‏ ‏(‏وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ القَضَاء‏)‏‏.‏ وهذا أبلغ من الرضا بالقضاء، فإنه قد يكون عزماً فإذا وقع القضاءُ، تنحل العزيمةُ، فإذا حصل الرضا بعد القضاء، كان حالاً أو مقاماً‏.‏

والمقصودُ أن الاستخارة تَوكُّلٌ على اللَّه وتفويضٌ إليه، واستقسَام بقُدرته وعلمه، وحسن اختياره لعبده، وهى من لوازم الرضا به رباً، الذي لا يذوق طعم الإيمان مَنْ لم يكن كذلك، وإنْ رضى بالمقدورِ بعدها، فذلك علامةُ سعادته‏.‏

وذكر البيهقى وغيره، عن أنس رضى اللَّه عنه قال‏:‏ لم يُرد النبىُّ صلى الله عليه وسلم سَفَراً قطُّ إلا قال حين ينهض من جلوسه‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ بِكَ انْتَشَرْتُ، وَإلَيْكَ تَوَجَّهْتُ، وبِكَ اعْتَصَمْتُ، وعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، اللَّهُمَّ أنْتَ ثِقَتِى، وأنْتَ رَجَائِى، اللَّهُمَّ اكْفِنى مَا أَهَمَّنِى وَمَا لاَ أَهْتَمُّ لَهُ، وَمَا أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّى‏.‏ عَزَّ جَارُكَ، وَجَلَّ ثَنَاؤكَ، ولا إلَه غَيْرُكَ، اللَّهُمَّ زَوِّدنى التَّقْوَى، وَاغْفِرْ لِى ذَنْبِى، وَوَجِّهْنِى لِلْخَيْر أَيْنَمَا تَوَجَّهْتُ‏)‏، ثم يخرج‏.‏

فصل‏:‏ في ما يقوله إذا ركب راحلته

وكانَ إذا ركب راحِلته، كبَّر ثلاثاً، ثم قال‏:‏ ‏(‏سُبْحَانَ الذي سَخَّر لَنَا هذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِيْن، وَإنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُون‏)‏‏.‏ ثم يقول‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إنِّى أَسْأَلُكَ في سَفَرِنَا هذَا البِرَّ والتَّقْوَى، ومِنَ العَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هذا، واطْو عنَّا بُعْدَه، اللَّهُمَّ أنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، والخَلِيفَةُ في الأهْلِ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنَا في سَفَرِنَا، واخلُفْنَا في أهْلِنَا‏)‏‏.‏ وإذَا رجع قالهنَّ وزاد فيهنَّ‏:‏ ‏(‏آيِبُونَ تائِبُون، عابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ‏)‏‏.‏

وذكر أحمد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كانَ يقول‏:‏ ‏(‏أنْتَ الصَّاحبُ في السَّفَر، وَالخَلِيفَةُ في الأهْلِ، اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِنَ الضِّبْنَةِ في السَّفَرِ والكآبَةِ في المُنْقَلَبِ، اللَّهُمَّ اقْبِضْ لَنَا الأرْضَ، وَهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ‏)‏، وَإذَا أراد الرجوع قال‏:‏ ‏(‏آيبون تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ‏)‏، وإذَا دخل أهْلَهُ قالَ‏:‏ ‏(‏تَوْبَاً تَوْباً، لِرَبِّنَا أوْباً، لا يُغادِرُ عَلَيْنَا حَوْباً‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏صحيح مسلم‏)‏‏:‏ أنه كان إذا سافر يقول‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إنِّى أعُوذُ بِكَ مِن وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكآبَةِ المُنْقَلَبِ، وَمنَ الحَوْرِ بَعْدَ الكَوْرِ، ومِنْ دَعْوَةِ المَظْلُومِ، ومِنْ سُوءِ المَنْظَر في الأهْلِ والمال‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في ما يقوله إذا وضع رِجْلَه في الركاب

وكانَ إذَا وَضَعَ رِجْلَه في الرِّكَابِ لِرُكُوبِ دَابَّتِهِ، قال‏:‏ ‏(‏بِسْمِ الله‏)‏، فَإذَا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏الحَمْدُ لِلَّهِ‏)‏- ثَلاثاً- ‏(‏الله أكْبَرُ‏)‏- ثَلاثاً، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وإنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُون‏)‏- ثمَّ يقولُ‏:‏ ‏(‏الحَمْدُ لِلَّهِ‏)‏- ثَلاثاً- ‏(‏الله أكْبَرُ‏)‏ ثَلاثاً، ثمَّ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏سُبْحَانَ الله‏)‏- ثلاثاً، ثمَّ يقول‏:‏ ‏(‏لا إلَه إلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، سُبْحَانَكَ إنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى، فَاغْفِرْ لِى، إنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنوبَ إلاَّ أنْتَ‏)‏‏.‏

وكانَ إذَا ودَّعَ أصحابَه في السفر يقولُ لأحدهم‏:‏ ‏(‏أَسْتَوْدِعُ الله دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ، وَخَواتيمَ عَمَلِكَ‏)‏‏.‏

وجاء إليه رجل وقال‏:‏ يا رسولَ الله‏:‏ إنِّى أُرِيدُ سَفَراً، فَزَوِّدْنِى‏.‏ فقال‏:‏‏(‏زَوَّدَكَ الله التَّقْوَى‏)‏‏.‏ قال‏:‏ زِدْنِى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وَغَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ‏)‏‏.‏ قال‏:‏ زدنى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويَسَّرَ لَكَ الخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ‏)‏‏.‏

وقال له رجل‏:‏ إنِّى أريدُ سفراً، فقال‏:‏ ‏(‏أُوصيك بتقْوَى الله، والتَّكْبِيرِ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ‏)‏، فلمَّا ولَّى، قال‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ ازْوِ لَهُ الأَرْضَ، وَهَوِّنْ عَلَيْهِ السَّفَرَ‏)‏‏.‏

وكان النبىُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، إذَا عَلوُا الثنايا، كبَّرُوا، وَإذَا هَبَطُوا، سبَّحُوا، فوضعت الصلاة على ذلك‏.‏

وقال أنس‏:‏ كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم إذا عَلا شَرَفاً مِنَ الأرْضِ، أو نَشْزاً قال‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ لَكَ الشَّرَفُ عَلَى كلِّ شَرَفٍ، وَلَكَ الحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَمْدٍ‏)‏‏.‏

وكان سيرُه في حَجَّه العَنَقَ، فإذَا وَجَدَ فجوةً، رَفَعَ السَّيرَ فوقَ ذلكَ، وكَانَ يقول‏:‏ ‏(‏لا تَصْحَبُ المَلائِكَةُ رفْقَةً فيها كَلْبٌ وَلا جَرَسٌ‏)‏‏.‏

وكان يكرهُ للمُسَافر وحْدَهُ أن يسيرَ بالليل، فقالَ‏:‏ ‏(‏لَوْ يَعْلَمُ النَّاسَُ ما في الوحْدَةِ ما سَار أحَدٌ وَحْدَه بِلَيْلٍ‏)‏‏.‏

بل كان يَكْرَهُ السفرَ للواحد بلا رفقة، وأخبر‏:‏ ‏(‏أنَّ الوَاحِدَ شَيْطَانٌ والاثْنَانِ شَيْطَانَانِ، والثَّلاَثَةُ رَكْبٌ‏)‏‏.‏

وكان يقول‏:‏ ‏(‏إذَا نَزَلَ أحَدُكُمْ مَنْزِلاً فَلْيَقُلْ‏:‏ أَعُوذُ بكَلماتِ الله التَّامَّات مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ، فَإنَّهُ لا يَضُرُّهُ شَئ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ‏)‏‏.‏ ولفظ مسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً ثم قَالَ‏:‏ أعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَىءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزله ذلك‏)‏‏.‏

وذكر أحمد عنه أنه كانَ إذَا غزَا أو سافر، فَأدرَكَهُ الليل، قال‏:‏ ‏(‏يا أرضُ رَبِّى وَرَبُّكِ الله، أَعُوذُ باللهِ مِنْ شَرِّكِ وَشَرِّ مَا فِيكِ، وشَرِّ ما خُلِقَ فِيكِ، وَشَرِّ ما دَبَّ عَلَيْكِ، أعوذُ بالله مِنْ شَرِّ كُلِّ أسَدٍ وأَسْود، وَحَيّةٍ وَعَقْرَبٍ، ومِنْ شَرِّ سَاكِنِ البَلَد، ومِنْ شَرِّ وَالد، ومَا وَلَدَ‏)‏‏.‏

وكان يقولُ‏:‏ ‏(‏إذا سَافَرْتم في الخِصْب، فَأَعْطُوا الإبَلَ حَظَّهَا مِنَ الأرض، وَإذَا سَافَرْتُمْ في السَّنَةِ، فبادروا نِقْيَها‏)‏‏.‏ وفى لفظ‏:‏ ‏(‏فأسْرِعُوا عَلَيْهَا السَّيْرَ، وإذَا عَرَّسْتُم، فَاجْتَنِبُوا الطَّرِيقَ، فَإنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ وَمَأوَى الهَوَامِّ باللَّيْلِ‏)‏

وكان إذا رأى قريةً يُريد دخولها قال حين يراها‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وما أَظْلَلْنَ، وَرَبَّ الأرْضين السَّبْعِ ومَا أَقْلَلْنَ، ورَبَّ الشَّياطينِ وَمَا أضْلَلْنَ، وَرَبَّ الرِّيحِ وَمَا ذَرَيْن، إنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هذِهِ القَرْيَةِ وَخَيْرَ أهْلِهَا، ونَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فيهَا‏)‏‏.‏

وكانَ إذا بدا له الفجرُ في السَّفرِ، قال‏:‏ ‏(‏سَمِعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ الله وحُسْنِ بَلائِهِ عَلَيْنَا، رَبَّنَا صَاحِبْنَا وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا عَائِذاً بالله مِنَ النَّارِ‏)‏‏.‏

وكان يَنْهَى أن يُسَافَرَ بالقُرْآنِ إلى أرْضِ العَدُوِّ، مخَافَةَ أنْ يَنَالَهُ العَدُوُّ‏.‏

وَكَانَ يَنْهى المَرْأَةَ أنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَلَوْ مَسَافَةَ بَرِيدٍ‏.‏

وكانَ يَأْمُرُ المُسَافِرَ إذَا قَضَى نَهْمَتَهُ مِنْ سَفَرِهِ، أن يُعَجِّلَ الأوْبَةَ إلَى أهْلِهِ‏.‏

وَكَانَ إذَا قَفَلَ مِنْ سَفَرِهِ يُكَبِّر عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأرْضِ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لا إله إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، ولَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ، آيُبونَ تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ الله وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ‏)‏‏.‏

وكان ينهى أنْ يَطْرُقَ الرَّجُلُ أهْلَهُ لَيْلاً إذَا طَالَتْ غَيْبَتُهُ عَنْهُمْ‏.‏

وفى ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ كان لا يَطْرُقُ أهْلَه لَيْلاً يَدْخُلُ عَلَيْهنَّ غُدْوَةً أوْ عَشِيَّةً‏.‏

وَكَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ يُلَقَّى بِالْوِلْدَانِ مِنْ أهْلِ بَيْتِهِ، قالَ عبد الله بنُ جعفر‏:‏ وإنه قَدِمَ مَرَّةً مِن سفر، فَسُبِقَ بى إليه، فَحَمَلَنِى بَيْنَ يَدَيْهِ، ثم جِئَ بأَحَدِ ابنى فاطمَةَ، إما حَسَن وإما حُسين، فأردفه خلفَه، قالَ‏:‏ فدخلنا المَدِينَةَ ثَلاثَةً على دَابَّةٍ‏.‏

وكان يعتنِق القَادِمَ مِنْ سَفَرِهِ، ويُقَبِّلُه إذا كَان مِنْ أهْلِهِ‏.‏ قال الزهرى‏:‏ عن عُروة، عن عائشة‏:‏ قدم زيدُ بنُ حارثة المدينةَ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بيتى، فأتاه، فَقَرَعَ البَابَ، فَقَامَ إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عُرياناً يَجُرُّ ثَوْبَهُ، واللهِ ما رأيته عُرياناً قَبْلَه ولا بَعْدَه، فاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ‏.‏

قالت عائشةُ‏:‏ لما قَدِمَ جعفرٌ وأصحابُه، تلقاه النبىُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَاعْتَنَقَهُ‏.‏

قال الشعبى‏:‏ وكان أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إذا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ، تَعَانَقُوا‏.‏

وكَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، بَدَأَ بِالمَسْجِدِ، فَرَكعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في أذكار النكاح

ثبت عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه علَّمهم خُطبة الحاجَةِ‏:‏ ‏(‏الحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، ونَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ باللَّهِ مِنْ شُرُورِ أنفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ الله، فَلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ له، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عبدُه وَرَسُولُهُ‏)‏، ثُمَّ يَقْرَأُ الآيَاتِ الثَّلاثَ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنتُم مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏، ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً، وَاتَّقُوا الله الذي تَسَاءلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ، إنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏، ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا اتَّقُوا الله وقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 70-71‏]‏‏.‏

قال شعبة‏:‏ قلت لأبى إسحاق‏:‏ هذه في خطبة النكاح، أو في غيرها‏؟‏ قال‏:‏ في كل حاجة‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏إذَا أفَادَ أحَدُكُم امْرَأةً، أو خَادِماً، أو دابَّةً، فَلْيَأْخُذْ بناصِيَتِها، وَلْيَدْعُ الله بِالبَرَكَةِ، وَيُسَمِّى الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلْيَقُلْ‏:‏ اللَّهُمَّ إنِّى أسْأَلُكَ خَيْرَها، وخَيْرَ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ، وأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ ما جُبِلَتْ عَلَيْهِ‏)‏‏.‏

وكان يقولُ للمتزوج‏:‏ ‏(‏بَارَكَ الله لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا في خَيْرٍ‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏لَو أنَّ أحَدَكم إذا أراد أنْ يَأْتِىَ أَهْلَه، قال‏:‏ بِسْمِ الله، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فإنه إنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ في ذلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَداً‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في هَدْيه صلى الله عليه وسلم فيما يقول مَنْ رأى ما يُعجبه مِن أهله ومالِه

يُذكر عن أنس أنه قال‏:‏ ‏(‏ما أنعم الله عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً في أهلٍ، ولا مَالٍ، أو ولدٍ، فيقول‏:‏ ما شَاءَ الله، لا قُوَّة إلاَّ باللَّهِ، فَيَرَى فِيهِ آفَةً دُونَ المَوْتِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ الله لا قُوَّةَ إلا بِاللَّهِ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 39‏]‏‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ فيما يقول مَن رأى مُبْتَلى

صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما مِنْ رَجُلٍ رأى مُبْتَلى فقالَ‏:‏ الحمْدُ لِلَّهِ الذي عَافَانِى ممَّا ابْتَلاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِى عَلَى كَثير ممَّن خَلَقَ تَفْضِيلاً، إلاَّ لَمْ يْصِبْه ذَلِكَ البَلاءُ كَائِناً مَا كَانَ‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ فيما يقوله مَن لحقته الطِّيرَةُ

ذُكِرَ عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أحْسَنُهَا الفَأْلُ وَلاَ تَرُدُّ مُسْلِماً، فَإذَا رَأَيْتَ مِنَ الطِّيَرَةِ مَا تَكْرَهُ فَقُلْ‏:‏ اللَّهُمَّ لا يَأتِى بالحَسَنَاتِ إلاَّ أنْتَ، وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئاتِ إلاَّ أنْتَ، ولا حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ‏)‏‏.‏

وكَانَ كَعب يقول‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ لا طَيْرَ إلاَّ طَيْرُكَ، وَلاَ خَيْرَ إلا خَيْرُكَ، وَلاَ رَبَّ غَيرُكَ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بِكَ، والذي نَفْسِى بِيَدِهِ، إنَّهَا لرأْسُ التَّوَكُّلِ، وكَنْزُ العَبْدِ في الجَنَّةِ، ولا يقُولُهُنَّ عَبْدٌ عِنْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَمْضِى إلاَّ لَمْ يَضُرَّهُ شَىء‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ فيما يقوله مَن رأى في منامه ما يكرهه

صَحَّ عنهُ- صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ الله، والحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فمَنْ رَأى رُؤيَا يَكْرَهُ مِنْهَا شَيْئاً، فَلّيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثلاثاً، وَلْيَتَعَوَّذْ باللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإنَّهَا لا تَضُرُّهُ، وَلاَ يُخْبِرْ بِهَا أحَداً‏.‏ وَإنْ رَأَى رُؤيَا حَسَنَةً، فَلْيَسْتَبْشِرْ، وَلاَ يُخْبِرْ بِهَا إلاَّ مَنْ يُحِبُّ‏)‏‏.‏

وَأَمَرَ مَنْ رَأى مَا يَكْرَهُهُ أنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ جَنْبِهِ الذي كَانَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ أنْ يُصَلِّىَ‏.‏

فأمره بخمسةِ أشياء‏:‏ أن ينفُثَ عَنْ يساره، وَأن يستعيذَ باللَّهِ من الشَّيطان، وأن لا يُخبر بها أحداً، وأن يتحوَّل عن جنبه الذي كان عليه، وأن يقومَ يُصلِّى، ومتى فعل ذلك، لم تضرَّه الرؤيا المكروهة، بل هذا يدفَعُ شرَّها‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبَّرْ، فإذَا عُبِّرَتْ، وَقَعَتْ، ولا يَقُصُّهَا إلاَّ على وَادٍّ، أوْ ذِى رَأْى‏)‏‏.‏

وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه، إذَا قُصَّت عليه الرؤيا، قال‏:‏ اللَّهُمَّ إنْ كَانَ خَيْراً فَلَنَا، وإنْ كَانَ شَرَّاً، فَلِعَدُوِّنَا‏.‏

ويُذكر عن النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ عُرِضَتْ عَلَيهِ رُؤْيَا، فَلْيَقُلْ لِمَنْ عَرَضَ عَلَيْهِ خَيْراً‏)‏‏.‏

ويُذكر عنه أنه كان يقول للرائى قبل أن يعبرُها له‏:‏ ‏(‏خَيْراً رَأَيْتَ‏)‏ ثم يَعْبُرُهَا‏.‏

وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال‏:‏ كان أبو بكر الصِّدِّيق إذا أراد أن يَعْبُر رُؤيا، قال‏:‏ إن صَدَقَتْ رُؤياكَ، يكونُ كذا وكذا‏.‏

فصل‏:‏ فيما يقولُه ويفعلُه مَن ابتُلى بالوَسْوَاسِ، ومَا يستعينُ به على الوسوسة

روى صالحُ بن كَيْسان، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن مسعود يرفعه‏:‏ ‏(‏إنَّ لِلمَلَكِ الموَكَّلِ بِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ لَمّةً، وَلِلْشَّيْطَانِ لَمَّةً، فَلَمَّةُ المَلَكِ إيعَادٌ بِالخَيْرِ، وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ، وَرَجَاءُ صَالِحِ ثَوابه، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ، إيعَادٌ بالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بالحَقِّ، وقُنُوطٌ مِنَ الخَيْرِ، فَإذَا وجَدْتُمْ لَمَّةَ المَلَكِ، فَاحْمدُوا الله، وسَلُوه مِنْ فَضْلِهِ، وَإذَا وَجَدْتُمْ لَمَّةَ الشَّيْطَانِ، فَاسْتَعِيذُوا بِاللَّه وَاسْتَغْفِرُوه‏)‏‏.‏

وقال له عثمانُ بنُ أبى العاص‏:‏ يا رَسُولَ الله ؛ إنَّ الشيطانَ قد حال بينى وَبَيْنَ صَلاتِى وقِراءتى، قال‏:‏ ‏(‏ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ له‏:‏ خِنْزَبٌ، فَإذَا أحْسَسْتَهُ، فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، واتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلاثاً‏)‏‏.‏

وشكى إليه الصحَابَةُ أنَّ أحدهم يَجِدُ في نفسِهِ- يُعرِّض بالشىء- لأن يَكُونَ حُمَمَةً أحبُّ إليه من أنْ يتَكلَّمَ به، فقال‏:‏ ‏(‏الله أكْبَرُ، الله أكْبَرُ، الحَمْدُ لِلَّهِ الذي رَدَّ كَيْدَهُ إلى الوَسْوَسَةِ‏)‏‏.‏

وأرشد من بُلى بشىءٍ مِن وسوسة التسلسل في الفاعلين، إذا قيل له‏:‏ هذَا الله خَلَق الخلق، فمَن خَلَقَ الله‏؟‏ أن يقرأ‏:‏ ‏{‏هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ والظَّاهِرُ والبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3‏]‏‏.‏

كذلك قال ابنُ عباسٍ لأبى زُميل سماك بن الوليد الحنفى وقد سأله‏:‏ ما شىءٌ أجِدُهُ في صدرى‏؟‏ قال‏:‏ ما هُو‏؟‏ قال‏:‏ قلتُ‏:‏ واللَّهِ لا أتكلَّمُ به‏.‏ قال‏:‏ فقال لى‏:‏ أشىء مِن شَك‏؟‏ قلتُ‏:‏ بلى، فَقَالَ لى‏:‏ ما نَجا مِنْ ذلِكَ أحد، حتى أنزلَ الله عَزَّ وجَلَّ‏:‏ ‏{‏فَإن كُنتَ في شَكٍّ مِّمَّا أنْزَلْنَا إلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 94‏]‏ قال‏:‏ فقال لى‏:‏ فإذا وجدتَ في نفسك شيئاً، فَقُلْ‏:‏ ‏{‏هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ والظَّاهِرُ والبَاطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3‏]‏‏.‏

فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلانِ التسلسل الباطل ببديهة العقل، وأن سلسلةَ المخلوقات في ابتدائها تنتهى إلى أولٍ ليس قَبلَه شئ، كما تنتهى في آخرِها إلى آخر ليس بعَده شئ، كما أن ظهورَه هو العلوُّ الذي ليس فوقَه شئ، وبُطونَه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شئ، ولو كان قبله شئ يكون مؤثراً فيه، لكان ذلك هو الربَّ الخلاق، ولا بدَّ أن ينتهىَ الأمر إلى خالقٍ غيرِ مخلوقٍ، وغنى عن غيره، وكلُّ شىء فقير إليه، قائم بنفسه، وكل شئ قائم به، موجود بذاته، وكل شئ موجود به‏.‏ قديمٌ لا أول له، وكُلُّ ما سواه فوجودهُ بعد عدمه، باقٍ بذاته، وبقاءُ كل شىء به، فهو الأوَّلُ الذي ليس قبله شىء، والآخر الذي ليس بعده شئ، الظاهر الذي ليس فوقَه شئ، الباطنُ الذي ليس دونه شئ‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَزالُ النَّاسُ يَتَسَاءلونَ حَتَّى يقول قائِلُهم‏:‏ هذا الله خَلَقَ الخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ الله‏؟‏ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً، فَلْيَسْتَعِذْ باللَّهِ وَلْيَنْتَهِ‏)‏، وقدْ قال تَعالى‏:‏ ‏{‏وَإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 36‏]‏‏.‏

ولما كان الشيطانُ على نوعين‏:‏ نوعٍ يُرى عياناً، وهو شيطانُ الإنس، ونوعٍ لا يُرى، وهو شيطانُ الجن، أمرَ سبحانه وتعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يكتَفىَ مِن شر شيطان الإنس بالإعراض عنه، والعفو، والدفع بالتى هي أحسنُ، ومن شيطان الجن بالاستعاذة باللَّهِ منه، وجمع بينَ النوعين في سورة الأعراف، وسورة المؤمنين، وسورة فصلت، والاستعاذة في القراءة والذِّكر أبلغُ في دفع شر شياطين الجن، والعفوُ والإعراضُ والدفعُ بالإحسان أبلغُ في دفع شرِّ شياطينِ الإنس‏.‏ قال‏:‏

فما هـو إلا الاسْتِعاذَةُ ضَارِعَاً أَو الدَّفْعُ بالحُسْنى هُمَا خَيْرُ مَطْلُوبِ

فَهذَا دَوَاءُ الدَّاءِ مِنْ شَرِّ ما يُرَى وَذَاكَ دَوَاءُ الدَّاء مِنْ شَرِّ مَحْجُوبِ

فصل‏:‏ في ما يقوله ويفعله مَن اشتد غضبه

أمره- صلى الله عليه وسلم- أن يُطفئ عَنْهُ جَمْرَةَ الغضب بالوُضُوءِ، والقعودِ إنْ كَانَ قَائِمَاً، والاضطِجَاع إن كَانَ قَاعِدَاً، والاستعاذةِ باللَّه مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجيمِ‏.‏

ولما كان الغضبُ والشهوةُ جمرتين مِن نارٍ في قلبِ ابن آدم، أمر أن يُطفئهما بالوضوء، والصلاة، والاستعاذةِ من الشيطان الرجيم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بالبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 44‏]‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏.‏ وهذا إنما يحمل عليه شدَّة الشهوةِ، فأمرهم بما يُطفئون بها جمرتها، وهو الاستعانةُ بالصبرِ والصلاة، وأمر تعالى بالاستعاذةِ من الشيطان عند نزغاته، ولما كانت المعاصى كلها تتولد مِن الغضب والشهوة، وكان نهايةُ قوةِ الغضبِ القتل، ونهايةُ قوةِ الشهوة الزِّنى، جمع الله تعالى بين القتل والزِّنى، وجعلهما قرينين في سورة الأنعام، وسورة الإسراء، وسورة الفرقان، وسورة الممتحنة‏.‏

والمقصودُ‏:‏ أنه سبحانه أرشد عباده إلى ما يدفعون به شرَّ قوتَى الغضب والشهوة من الصلاة والاستعاذة‏.‏

فصل‏:‏ في ما يقوله إذا رأى ما يحب

وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا رَأَى مَا يُحِبُّ، قال‏:‏ ‏(‏الحَمْدُ لِلَّهِ الذي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ‏)‏‏.‏ وَإذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ، قال‏:‏ ‏(‏الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو لمن تقرَّب إليه بما يحب وبما يناسِب

وكان- صلى الله عليه وسلم- يدعو لِمَن تقرَّب إليه بما يُحِبُّ وبما يُنَاسِبُ، فلما وَضَعَ لهُ ابن عبَّاس وَضُوءَهُ قال‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ في الدِّين، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ‏)‏‏.‏

ولمَّا دَعَّمَهُ أبو قَتَادَة في مَسيرِهِ بالليل لمَّا مالَ عن راحِلته، قال‏:‏ ‏(‏حَفِظَكَ الله بِما حَفِظَتَ بِهِ نَبِيَّه‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏مَنْ صُنِعَ إليهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفَاعِلِهِ‏:‏ جَزَاكَ الله خَيْرَاً، فَقَدْ أَبْلَغَ في الثَّنَاءِ‏)‏‏.‏

واستقرض من عبد الله بن أبى ربيعة مالاً، ثم وفَّاه إياه، وقال‏:‏ ‏(‏بَارَكَ الله لَكَ في أهْلِكَ وَمالِكَ، إنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الحَمْدُ والأدَاءُ‏)‏‏.‏

ولمَّا أرَاحَهُ جَرِيرُ بن عبد الله البَجَلِى مِن ذِى الخَلَصَةِ‏:‏ صَنَمِ دَوْس، بَرَّكَ عَلَى خَيْلِ قَبِيلَتِهِ أَحْمس وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ‏.‏

وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا أُهديت إليه هديةٌ فقبلها، كافأ عليها بأكثر منها، وإن ردّهَا اعتذَرَ إلى مُهْدِيهَا، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلصَّعْبِ ابن جَثَّامةَ لما أَهْدَى إلَيْهِ لَحْمَ الصَّيْدِ‏:‏ ‏(‏إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلاَّ أنَّا حُرُمٌ‏)‏ واللَّه أعلمُ‏.‏

فصل‏:‏ في ما يقوله مَن سمع نهيق الحمار أو صياح الدِّيَكة

وأمر- صلى الله عليه وسلم- أُمَّته إذا سَمِعُوا نَهِيقَ الحِمَارِ أن يتعوَّذُوا باللَّهِ منَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم، وإذَا سَمِعُوا صِيَاحَ الدِّيَكَةِ، أَنْ يَسْأَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ‏.‏

ويُروى عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه أَمَرَهُم بالتَّكْبِيرِ عِنْدَ رؤية الحَرِيق، فَإنَّ التَّكْبِيرَ يُطْفِئُه‏.‏

وكره- صلى الله عليه وسلم- لأَهل المجلسِ أن يُخْلُوا مَجْلِسَهُم مِنْ ذِكْرِ الله عَزَّ وجَلَّ، وقال‏:‏ ‏(‏مَا مِنْ قَوْمٍ يقومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لا يَذْكُرونَ الله فيهِ إلاَّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفةِ الحِمارِ‏)‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏(‏مَنْ قَعَدَ مَقعَداً لم يَذكُرِ الله فِيهِ كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الله تِرَةٌ، ومَنِ اضطجع مضجعاً لا يذكرُ الله فيه، كانت عليه من الله تِرَةٌ‏)‏‏.‏

والتِّرَةُ‏:‏ الحسرة‏.‏

وفى لفظ‏:‏ ‏(‏وما سَلَكَ أَحَدٌ طَرِيقاً لَمْ يَذْكُرِ الله فِيهِ، إلاَّ كَانَتْ عَلَيْهِ تِرَةٌ‏)‏‏.‏

وقالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ جَلَسَ في مَجْلسٍ، فَكَثُرَ فيهِ لَغَطُهُ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه‏:‏ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وبحَمْدِكَ، أشْهَدُ أنْ لا إله إلاَّ أنْتَ، أسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ، إلا غُفِرَ لَهُ ما كانَ في مَجْلِسه ذَلِكَ‏)‏‏.‏

وفى ‏(‏سنن أبى داود‏)‏ و ‏(‏مستدرك الحاكم‏)‏ أنه- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يقُولُ ذلِكَ إذَا أرَادَ أنْ يَقُومَ مِنَ الْمَجْلِسِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ الله ؛ إنَّكَ لَتَقُولُ قَوْلاً مَا كُنْتَ تَقُولُه فِيمَا مَضَى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ذَلِكَ كَفَّارةٌ لِمَا يَكُونُ في المَجْلِسِ‏)‏‏.‏

فصل‏:‏ في ما يقول مَن شكا الأرق بالليل

وشكى إليه خالدُ بنُ الوليد الأرقَ بالليل، فقال له‏:‏ ‏(‏إذَا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فقل‏:‏ اللَّهُمَّ رَبِّ السماوات السَّبْعِ وَما أَظَلَّتْ، وَرَبَّ الأَرْضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقَلَّتْ، وَرَبَّ الشَّيَاطِين وَمَا أَضَلَّتْ، كُنْ لى جَاراً مِنْ شَرِّ خَلْقكَ كُلِّهِم جَميعاً مِنْ أنْ يَفْرُطَ أَحَدٌ مِنْهُم عَلَىَّ، أَوْ أَنْ يَطْغى عَلَىَّ، عَزَّ جَارُكَ، وَجَلَّ ثَناؤُكَ، ولاَ إلهَ إلاَّ أنْتَ‏)‏‏.‏

وكان- صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمُ أصحابَه من الفزع‏:‏ ‏(‏أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَامَّة مِنْ غَضَبِهِ وَمِنْ شَرِّ عباده، ومن شرِّ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِين، وأنْ يَحْضُرُون‏)‏‏.‏

ويُذكر أن رجلاً شَكَى إلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم- أنه يفزع في مَنَامِه، فقال‏:‏ ‏(‏إذَا أوَيْتَ إلى فِرَاشِكَ فقل ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ ثم ذكرها، فقالها فذهب عنه‏.‏

فصل‏:‏ في ألفاظ كان صلى الله عليه وسلم- يَكْرَهُ أن تُقَال

فَمِنْهَا‏:‏ أن يقول‏:‏ خَبُثَتْ نَفْسِى، أَوْ جَاشَتْ نَفْسِى، وَلْيَقُلْ‏:‏ لَقِسَتْ‏.‏

ومنها‏:‏ أن يُسَمِّى شَجَرَ العِنَبِ كَرْماً، نَهَى عَنْ ذلِكَ، وقال‏:‏ ‏(‏لا تَقُولُوا‏:‏ الكَرْمَ، وَلَكِنْ قُولُوا‏:‏ العِنْبُ والحَبَلةُ‏)‏‏.‏

وكرِه أن يقولَ الرجلُ‏:‏ هلكَ النَّاسُ‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إذَا قَالَ ذلِكَ، فَهُوَ أهْلَكُهُمْ‏)‏‏.‏ وفى معنى هذا‏:‏ فسد الناسُ، وفسد الزمانُ ونحوهُ‏.‏

ونهى أن يُقَالَ‏:‏ ما شَاءَ الله، وَشَاءَ فُلانٌ، بَلْ يُقَالُ‏:‏ مَا شَاءَ الله، ثُمَّ شَاءَ فُلانٌ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ‏:‏ مَا شَاءَ الله وَشِئْتَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَجَعَلْتَنِى للهِ نِدّاً‏؟‏، قل‏:‏ مَا شَاءَ الله وَحْدَهُ‏)‏‏.‏

وفى معنى هذَا‏:‏ لولا الله وفلانٌ، لما كانَ كذا، بل هو أقبحُ وأنكر، وكذلك‏:‏ أنا باللَّهِ وبفُلان، وأعوذُ باللَّهِ وبفُلان، وأنا في حَسْبِ الله وحَسْبِ فلان، وأنا متَّكِل على الله وعلى فلان، فقائلُ هذا، قد جعل فلاناً نِدَّاً للهِ عَزَّ وجَلَّ‏.‏

ومنها‏:‏ أن يُقال‏:‏ مُطِرْنا بَنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، بل يقُولُ‏:‏ مُطِرْنَا بِفَضْلِ الله وَرَحْمتهِ‏.‏

ومنها‏:‏ أن يحلِفَ بغير الله‏.‏ صحَّ عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ الله فَقَدْ أَشْرَكَ‏)‏‏.‏

ومنها‏:‏ أن يقول في حَلِفِهِ‏:‏ هو يَهُودِى، أو نصرانى، أو كافر، إن فعل كذا‏.‏

ومنها‏:‏ أن يقولَ لِمسلمٍ‏:‏ يا كَافِرُ‏.‏

ومنها‏:‏ أن يقولَ للسلطان‏:‏ مَلِكُ المُلُوكِ‏.‏ وعلى قياسه‏:‏ قاضى القضاة‏.‏

ومنها‏:‏ أن يقول السَّيِّدُ لِغلامه وجارِيته‏:‏ عَبْدِى، وأمَتِى، ويقول الغلامُ لسيده‏:‏ ربى، وليقُل السَّيِّدُ‏:‏ فَتَاى وفتاتى، وليَقُلِ الغلامُ‏:‏ سيِّدى وسيِّدتى‏.‏

ومنها‏:‏ سبُّ الرِّيحِ إذَا هبَّتْ، بل يسألُ الله خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ، ويَعُوذُ باللَّهِ مِنْ شرِّهَا وشر ما أُرسلت به‏.‏

ومنها‏:‏ سبُّ الحُمَّى، نهى عنه، وقال‏:‏ ‏(‏إنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِى آدَمَ، كمَا يُذْهِبُ الكِيْرُ خَبَثَ الحَدِيدِ‏)‏‏.‏

ومنها‏:‏ النَّهىُ عن سب الدِّيكِ، صحَّ عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تَسُبُّوا الدِّيكَ، فَإنَّهُ يُوقِظُ للصَّلاةِ‏)‏‏.‏

ومنها‏:‏ الدعاء بدعوى الجاهلية، والتَّعَزِّى بعزائهم، كالدُّعَاء إلى القبائل والعَصبِيَّة لها وللأنساب، ومثلهُ التعصبُ لِلمذاهب، والطرائِقِ، والمشايخ، وتفضيلُ بعضها على بعض بالهوى والعصبية، وكونُهُ منتسباً إليه، فيدعو إلى ذلك، ويُوالى عليه، ويُعادِى عليه، وَيزِنُ الناس به، كُلُّ هذا مِن دعوى الجاهلية‏.‏

ومنها‏:‏ تسميةُ العِشَاء بِالعَتَمَةِ تسمية غالبة يُهجَرُ فيها لفظُ العِشَاء‏.‏

ومنها‏:‏ النهىُ عَن سِبَابِ المُسْلِم، وأن يتناجى اثنَانِ دُونَ الثَّالِث‏.‏ وأن تُخْبِرَ المرأةُ زَوْجَها بِمَحَاسِنِ امرأةٍ أُخْرَى‏.‏

ومنها‏:‏ أن يقولَ في دُعائه‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اغْفِرْ لى إنْ شِئْتَ، وارْحَمْنِى إنْ شِئْتَ‏)‏‏.‏

ومنها‏:‏ الإكثارُ مِنَ الحَلِفِ‏.‏

ومنها‏:‏ كراهةُ أن يقول‏:‏ قَوْسُ قُزَح، لِهذَا الذي يُرى في السَمَاء‏.‏

ومنها‏:‏ أن يسأل أحَداً بِوَجهِ الله‏.‏

ومنها‏:‏ أن يسمِّىَ المدينة بيثرب‏.‏

ومنها‏:‏ أن يُسألَ الرجلُ فيم ضرَبَ امرأته، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك‏.‏

ومنها‏:‏ أنْ يقول‏:‏ صُمْتُ رمضانَ كُلَّهُ، أو قمتُ اللَّيْلَ كُلَّهُ‏.‏

فصل‏:‏ في كراهة الإفصاح عن الأشياء التي ينبغى الكناية عنها بأسمائها الصريحة

ومن الألفاظِ المكروهَةِ الإفصاحُ عَنِ الأشياءِ التي ينبغى الكنايةُ عنها بأسمائها الصَّريحة‏:‏

ومنها‏:‏ أن يقولَ‏:‏ أطالَ الله بقاءَك، وأدامَ أيَّامَكَ، وعِشتَ ألفَ سنة ‏.‏‏.‏‏.‏ ونحو ذلك‏.‏

ومنها‏:‏ أن يقول الصائِمُ‏:‏ وحقِّ الذي خَاتِمه على فمِ الكافر‏.‏

ومنها‏:‏ أن يقول للمُكُوس‏:‏ حقوقاً‏.‏ وأن يقول لِمَا يُنْفِقُهُ في طاعةِ الله‏:‏ غَرِمْتُ أو خَسِرْتُ كَذَا وَكَذَا، وأن يقولَ‏:‏ أنفقتُ في هذه الدنيا مالاً كثيراً‏.‏

ومنها‏:‏ أن يقولَ المفتى‏:‏ أحلَّ اللهُ كذَا، وحرّم الله كذا في المسائل الاجتهادية، وإنما يقولُه فيما ورد النصُّ بتحريمه‏.‏

ومنها‏:‏ أن يُسَمِّىَ أدلةَ القرآن والسُّـنَّة ظواهِرَ لفظية ومجازاتٍ، فإن هذه التسمية تُسْقِطُ حُرمتَها مِن القلوب، ولا سيما إذا أضَافَ إلى ذلك تسمية شُبَهِ المتكلمينَ والفلاسفة قَواطِعَ عَقلية، فلا إله إلا الله، كم حَصَلَ بهاتين التسميتين مِن فساد في العقول والأديان، والدنيا والدين‏.‏

فصل‏:‏ في كراهة أن يُحدِّث الرجل بجِماع أهله وما يكون بينه وبينها

ومنها‏:‏ أن يُحدِّث الرجلُ بجِمَاع أهله، وما يكونُ بينه وبينها، كما يفعله السَّفَلَةُ‏.‏

ومما يُكره من الألفاظ‏:‏ زعموا، وذكروا، وقالوا‏.‏‏.‏‏.‏ ونحوه‏.‏

ومما يُكره منها أن يقول للسلطان‏:‏ خليفةُ الله، أو نائِبُ الله في أرضه، فإن الخليفة والنائبَ إنما يكونُ عن غائب، واللَّهُ سبحانه وتعالى خليفةُ الغَائِبِ في أهلهِ، ووكيلُ عبده المؤمن‏.‏

فصل‏:‏ في التحذير من طغيان ‏(‏أنا‏)‏، و‏(‏لى‏)‏، و‏(‏عندى‏)‏

وليحذر كُلَّ الحذر من طغيان ‏(‏أنا‏)‏، و‏(‏لى‏)‏، و‏(‏عندى‏)‏، فإن هذه الألفاظَ الثلاثةَ ابتُلى بها إبليسُ، وفرعون، وقارون‏:‏ فـ ‏{‏أنَا خَيْرٌ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ ‏[‏ص‏:‏ 76‏]‏ لإبليس، و‏{‏لِى مُلْكُ مِصْرَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 51‏]‏ لفرعون، و‏{‏إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 78‏]‏ لقارون‏.‏ وأحسنُ ما وُضِعَت ‏(‏أنا‏)‏ في قول العبد‏:‏ أنا العبدُ المذنب، المخطئ، المستغفر، المعترِف ‏.‏‏.‏‏.‏ ونحوه‏.‏ و‏(‏لى‏)‏، في قوله‏:‏ لى الذنب، ولى الجُرم، ولى المسكنةُ، ولى الفقرُ والذل‏.‏ و‏(‏عندى‏)‏ في قوله‏:‏ ‏(‏اغْفِرْ لى جِدِّى، وَهَزْلِى، وخَطَئِى، وَعَمْدِى، وَكُلُّ ذلِكَ عِنْدِى‏)‏‏.‏

نهاية الجزء الثاني